ريفييرا غزّة “الإسرائيلية”

لميس أندوني

كشف الصحافي الشهير سيمور هيرش تفاصيل خطة إسرائيلية رسمية لتحويل غزّة تجمّعاً استيطانيّاً متكاملاً، وأن يضاهي شاطئ الريفييرا الفرنسية جمالاً، مع اشتراط القضاء على أهل غزّة وكل ما يتعلق بحياتهم. فحرب الإبادة والتجويع وتهجير من يبقى على قيد الحياة في القطاع المدمّر توفّر بيئة لتحقيق “رؤية” لم تعد في مخيلة متطرّفي المستوطنين، بل وُضعَت خطط لجعلها واقعاً على أشلاء الفلسطينيين ودمائهم.

ليست الخطة سرّية، لكنها لم تُنشر إلا في مواقع متخصّصة بأخبار اليمين الصهيوني الديني، وفقاً لمقال لهيرش في موقع “سَبستاك” نُشر الخميس الماضي (24 يوليو/ تموز)، وعُرضَت في مؤتمر عقد في القدس المحتلة ترأسّه وزيرا الأمن الوطني إيتمار بن غفير والمالية بتسلئيل سموتريتش، وهما أبرز قادة حملة تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية. وقد أعلن سموتريتش، الذي يهدّد دوماً بتوسيع “أراضي إسرائيل” على حساب مصر والأردن ولبنان وسورية، في الاجتماع نفسه، أن رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير أعطاه “طمأناتٍ” بأن إسرائيل ستضمّ شماليّ غزّة لاعتبارات “أمنية”، أي أن مخطّط ريفييرا غزّة سيكون في أمن وأمان من “خطر” الفلسطينيين.

أن يجتمع مستوطنون في وسط القدس للبحث في تفاصيل خطّة تحوّل غزّة إلى مدن للمستوطنين وسط المجاعة التي فرضها حصار إسرائيل على أهل غزّة الذين يذوون من الجوع، يضيف إلى قباحة التجرّد من الضمير طبقة من الإجرام الذي يجعل القادة الإسرائيليين ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء الحياة في غزّة. لم يعد المشهد صادماً، لكنه لا يمكن أن يصبح طبيعياً ونعتاده، إذ نصبح بذلك أسرى تطبيع الإبادة في العقول والقلوب.

من دون الإبادة لا ينجح مشروع ترامب العقاري ولا المشروع العقاري الاستيطاني لإسرائيل

رؤية ريفييرا غزّة من دون الغزّيين، ليست مجرّد حلم عقل استيطاني مريض، فالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نفسه روّج خطة شبيهة، كان أول من تحدّث عنها صهره جاريد كوشنر، الذي بشّر ببناء منتجعاتٍ على سواحل غزّة بعد نقل الفلسطينيين إلى صحراء النقب أو إلى مصر. كذلك لا تخفي إدارة ترامب سعيها لنقل الفلسطينيين إلى دولٍ أخرى، فالتهجير القسري تحت مسمّيات زائفة، مثل الهجرة الطوعية، شرط عدم عودتهم إلى وطنهم، أضحى سياسةً لا يخجل من ترويجها الساسة الأميركيون باعتبارها “حلاً واقعياً” بعد الدمار الذي أوقعه شلال النار الهابط من الصواريخ والمدفعية الإسرائيلية.

السؤال الساخر: هل ستكون منافسة بين ترامب وشلّته من أصحاب الملايين وقادة إسرائيل والمستوطنين على توزيع “غنيمة” غزّة على القتلة والمجرمين؟ فعلياً، رؤية ريفييرا غزّة رفض ناعم لمشروع ترامب، لكنها تقدّم نفسها رؤية بديلة. فإسرائيل تقدم رؤية بديلة تحقق ما تحدث عنه ترامب بجعل قطاع غزة منطقة مزدهرة، من خلال بناء مدن استيطانية مدعومة بمشاريع اقتصادية (مواصلات ومطار دولي واستثمارات) تثبت “ملكية” إسرائيل لقطاع غزة، وليس فقط احتلاله.

بمعنى إنهاء أيّ أثر للمجتمع والفلسطيني فيه، لتكون مكاناً آخر لا يحمل من الهوية الفلسطينية شيئاً.، فالمستوطنون يرَون قطاع غزة بمثابة غنيمة يجب ان تُنظَّف من “الفلسطينيين”، أما تقاسم الغنيمة مع مجموعة أثرياء ترامب، فخاضع للاعتراف بسيطرة إسرائيل على غزة، فالغنيمة أَولى بالقوة المحتلة التي تتولى إبادة الشعب الفلسطيني، فمن دون الإبادة لا ينجح مشروع ترامب العقاري ولا المشروع العقاري الاستيطاني لإسرائيل.

غزّة كانت امتحاناً سقطنا فيه جميعاً؛ إذ لم تتحرّك أي دولة عربية لقطع العلاقات مع إسرائيل، بل تدفع بعض الدول العربية نظيراتها إلى التطبيع معها

حالة الاستسلام العربي تشجع إسرائيل على المضي في إنشاء مجتمع بديل للفلسطينيين في غزّة، وهنا من الضروري التذكير بأن كل العالم العربي والدول العربية في طريقها إلى أن تصبح مجرّد غنائم يتنعّم بها القائمون على المشروع الصهيوني وأثرياء الحرب من أصدقاء ترامب، والمنتفعون من فتح باب الاستثمارات والتملّك تحت شعار اللبرالية الجديدة.

قد لا تدمر إسرائيل سورية أو الأردن عسكرياً، لكن تغزوهما اقتصادياً؛ أي إن الخطط التي تعدّ لغزّة قد تكون أشد وضوحاً وفظاعة في غزّة، لكن الفطرة الأساسية أن إسرائيل تنشد السيطرة المباشرة على فلسطين، لكنها ترانا جميعاً في منطقة نفوذها وهيمنتها.

نموذج غزّة هو الأقسى والأشد إيلاماً، والمفترض أن يكون إنذاراً للجميع، لكن غزّة كانت امتحاناً سقطنا فيه جميعاً؛ إذ لم تتحرّك أي دولة عربية لقطع العلاقات مع إسرائيل، بل تدفع بعض الدول العربية نظيراتها إلى التطبيع معها. لذا، مرّ تصويت الكنيست بالأغلبية على قرار ضم إسرائيل الضفة الغربية دون ضجّة حقيقية. صحيحٌ أنه كان تصويتاً رمزياً، لكنه أيضاً إعلان نياتٍ من قوة مستعمِرة تنفّذ ما تريده، وتُخضعنا لامتحانٍ تلو الامتحان، ونسقط في كل امتحان.

أن يصل الأمر إلى أن يجتمع وزراء إسرائيليون ومستوطنون، لنقاش مشروع “ريفييرا غزّة” والإعلان الضمني لملكية غزّة، يؤسّس لسيناريو يجعل من الضفة الغربية وغزّة عقاراً يمتلكه المستوطنون ويفرض على ترامب أو أي مستثمر جشع التفاوض على ثمن البيع أو الإيجار مع المستوطنين وشروطهما، فلا وجود للفلسطينيين ولا لحقوقهم، وهذه هي تماماً الفكرة من تصفية القضية الفلسطينية، أي إخفاء الشعب الفلسطيني، والاعتراف بملكية المشروع الكولونيالي الصهيوني لأرض فلسطين.

ما تقوم به إسرائيل من خلال جيشها أو الهجمات الوحشية للمستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، رسالة إلى الجميع أن مشروعها الاستيطاني يتمدّد، وحدود فلسطين لا تسعها

قد يجد القارئ مبالغة في هذا الكلام، ولكنه من باب التحذير، إذ لا أعتقد أن كل ما تريده إسرائيل سيتحقق، وأؤمن بقدرة الشعب الفلسطيني على إفشال مخطّطات إسرائيل. ولكننا وصلنا إلى مرحلة يجب أن نشعر بالخوف منها لتحفيزنا على التنبه والتفكير، والحذر مما تسمّى اتفاقيات “سلام” مع إسرائيل، فمن أهم شروط “اتفاقيات السلام” التي تفرضها أميركا بمساعدة إسرائيل تعديل قوانين الملكية والاستثمار في البلاد العربية، لإزالة أي عقبات أمام تملُّك إسرائيلي عقارات ومشاريع في البلاد العربية، فهذا من شروط ليس التطبيع مع إسرائيل فحسب، بل لقبول المشروع الصهيوني نفسه، وبالتالي إلغاء الحقوق الفلسطينية.

ما تقوم به إسرائيل من خلال جيشها أو الهجمات الوحشية للمستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، رسالة إلى الجميع أن مشروعها الاستيطاني يتمدّد، وحدود فلسطين لا تسعها، ما يعيد إلى الذاكرة توسع المستوطنين البيض القادمين من أوروبا بعد وصولهم إلى أراضي أميركا الشمالية، فإبادة السكان الأصليين وإخضاع من يتبقون منهم كانا ضروريين لإثبات تفوقهم وملكيتهم للأرض. وهذا ما تفعله إسرائيل، فالمطلوب القضاء على هوية الأرض، والعالم العربي امتداد للأرض وأصحاب الأرض.

“ريفييرا غزّة” عنوان جديد لتكملة النكبة الفلسطينية، وينذر بنكبة عربية، لكنه مصير ليس محتوماً، شرط ألّا نكون مهزومين، فالمقاومة تبدأ بمنع هزم النفوس أولاً.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى