
تحاول أن تنسى ما مرّ بها، حروبها وحصارها والاحتلال والحرب الأهلية، فهي مدينة لم تكن في يوم عابرةً. كانت (وما زالت) تريد أن تبقى مدينةً صانعةً للحدث والتاريخ أيضاً، فهنا بغداد التي ما غادرت في يوم مساحة زهوها، حتى وهي في أضعف حالاتها.
تخبرك الشوارع المزدحمة، وحياة الليل التي عادت إليها، أن الناس هنا يتوقون لحياة الاستقرار، فقد تعبوا كما تعبت مدينتهم من سنوات القلق والحرب والموت. هي (كما هم) تريد أن تستعيد زهو مجدها الغابر، رغم كلّ شيء، رغم وجود الصراعات والتيارات والأحزاب، رغم وجود أكثر من 70 مليشيا مسلّحة ما زال أثرها باقياً لا تخطئه العين، ورغم فساد أثقل جيوب ساكنيها فقراً، وأثقل حسابات ساستها وقادة مليشياتها أرقاماً ما كانوا يعرفون إليها سبيلاً قبل سنوات خلت. رغم كلّ شيء، هي تحاول كما يحاولون أن يعتادوا حياة الاستقرار، حياة الأمن، حتى لتشعر في لحظة بأن هذه المدينة لم تركن إلى الاختباء خلف ستار الظلام قبل سنوات قليلة، تاركةً شوارعها نهباً للمسلّحين الذين كانوا يغتالون ويختطفون من دون وازع أو رادع بعد أن كانت الحكومة بكلّ أطيافها وتلاوينها، تتعامل معهم وتحمي ظهورهم.
في أزقة بغداد وحواريها القديمة يتجسّد لك الفساد واقعاً تراه رأي العين، كلّ شبر فيها حكاية فساد ونهب وسرقة لم تتوقّف
ولكنّه مسير على قلق، مسير نحو استقرار مشوب بألف خشية وخشية، قد لا تراه في وجوه العابرين والزائرين، لكنّه قلق مسموع في جلسات مثقّفي المدينة وقادة الفكر فيها، تسمعه هناك في مقاهي شارع الرشيد والمتنبّي والكرادة والأعظمية. هناك قلق على هذا الاستقرار، على هذا الأمن الذي عاد بعد انقطاع. وجدت بغداد نفسها في خضمّ صراعات يبدو أنها بلا نهاية منذ أن دخلت أتون تشكيل الحدث، ليس الأمر بقريب، بل هو بعيد، وربّما بعيد نسبياً، حتى إذا ما كان 9 إبريل (2003)، وجدت المدينة نفسها في وضع لا يشبه كلّ ما عاشته، وضع أعادها إلى حقبةٍ دوّنتها كتب التاريخ، تحدّثت عن احتلال بغداد وسقوط خلافتها الإسلامية عام 656 هجرية، كان احتلالاً شبيهاً بذاك، لتنفتح على المدينة وقائع موت مُعلَن، موت جال بين أحيائها وفرزها على أساس طائفي. هي اليوم تريد أن تنزع عن كاهلها سنوات الموت والخراب، تدرك أن الوصول إلى هذه الغاية في عالم مجنون يشبه الحلم، ولكنّها تريده وتتمنّاه (وربّما تعمل من أجله)، لكن القلق يبقى سيّد الموقف.
هنا في أزقة بغداد وحواريها القديمة يتجسّد لك الفساد واقعاً تراه رأي العين، كلّ شبر فيها حكاية فساد ونهب وسرقة لم تتوقّف منذ جاء القادمون من خلف البحار والمحيطات لنشر “الديمقراطية”، ومنذ عاد “المعارضون” من خلف الحدود ليمارسوا حقّهم في الحكم والمعارضة في آن، لتكتشف بغداد وأهلها زيف هؤلاء وهؤلاء، فلا الديمقراطية حلّت في ربوع بلاد الرافدين، ولا المعارضون القدماء كانوا أوفياء لشعاراتهم في الحرية والتقدّم، فقد تبيّن أنهم ثلّة لصوص وسُرّاق وطائفيون، عادوا من أجل أن يعوّضوا سنوات الحرمان التي عاشوها في الغربة، معتمدين على بطاقات الإعانات التي كانت تمنحها لهم دول اللجوء.
تجد بغداد نفسها اليوم مرغمةً على أن تختار، هي لا تملك فسحةً من أمرها، فهي إمّا أن تكون دولةً منزوعةَ السلاح المليشياوي، أو أن تواجه مصيرها، لا خيار ثالثاً أمامها، فلقد بدأ عالم يتشكّل بوحي ممّا جرى في 7 أكتوبر (2023)، يوم أن انتهز اليمين الصهيوني المتطرّف الفرصة لإعادة ترتيب الشرق الأوسط، إعادة رسم للخرائط وإعادة تشكيل للتحالفات على أسس لا يكون فيها للجماعات المسلّحة وجود ولا للدول من قرار، هو وجود واحد وقرار تملكه ظاهرياً سلطة الدولة وفعلياً النظام العالمي ذو القطب الواحد.
خيّرت واشنطن بغداد بين خيارَين، أن تلتزموا بحلّ المليشيات وحصر السلاح بيد الدولة، أو أن تباشر أميركا إجراءات سحب حمايتها عن الدولة العراقية، تهديد لا لبس فيه، حَمله محمّد شيّاع السوداني إلى قادة المليشيات الذين يسمّون زوراً وبهتاناً قادة “الإطار التنسيقي”، لتتباين الآراء وتختلف، أو إن شئت الدقّة أن تنتظر القرار من طهران، فهي مليشيات ولدت في إيران، وبعضها الآخر في العراق، وكلّها تدين للولي الفقيه بالسمع والطاعة.
تحتاج بغداد المنهكة المتعبة إلى أن تستعيد شيئاً من عافيتها، وأول خطوة نحو ذلك حلّ المليشيات وتفكيكها وسحب سلاحها
تغفو بغداد على ضفة القلق، تدرك نُخبتها حقيقة ما يجري، وتدرك أيضاً أن قرار الحفاظ على ما تحقّق من أمن نسبي مرهون بالتخلّي عن فكرة المليشيات، تلك المليشيات التي تستنزف سنوياً نحو 23 مليار دولار من خزينة الدولة، من دون أيّ مردود فعلي، فضلاً عمّا تسبّبه من وضع حرج للدولة والحكومة. ليس لبغداد أن تجازف بهذا الهدوء النسبي، ولا أن تعود لتختبئ حياتها بين أزقة شوارعها العتيقة ودهاليزها، هي تنفّست بعد سنوات من القتل والخراب والدمار، تنفّست هدوءاً تريد أن تحافظ عليه، فالناس ما زالت تتذكّر (وتتحدّث عن) عباءة الليل التي أسدلت ذات احتلال على بغداد، وخيّمت عليها سنوات. تتذكّرها بألم وحسرة، فقد غيّبت تلك العباءة آلاف الشباب العراقي ممّن لا يزال مصيرهم مجهولاً.
تبدو المهمة عسيرةً، ولكن لا بدّ منها، بغداد المنهكة المتعبة تحتاج أن تستعيد شيئاً من عافيتها، وأول خطوة نحو ذلك حلّ المليشيات وتفكيكها وسحب سلاحها، بل حتى ملاحقة كبار قادتها ممّن تورّطوا بالدم العراقي، تلك ببساطة ليست سوى بداية عودة هدوء العراق واستقراره. وإلا، فإن القلق سيبقى ضفةً تغفو عليها بلاد الرافدين حتى حين.
المصدر: العربي الجديد