
في مشهدٍ يلامس حدود الأسطورة والخيال، اشتعلت غابات الساحل السوري، مُعلنةً أكثر من مجرِّد كارثة بيئية آنية، انكشفت وسط دخانها الكثيف أسئلة طال نسيانها، أسئلة تعود بقوة، وكأنَّها تنهض من رماد الغابات المحترقة لتذكِّرنا بأنَّ العالم ليس ملكاً نهائياً للبشر. ففي كلِّ لحظة احتراق، يُسحب الغطاء عن وهم السيادة، وتُستدعَى الذاكرة الأولى لعلاقة هشَّة، لم تكتمل يوماً، بين الإنسان وعناصر الطبيعة، فإلى أي حدٍّ يملك الإنسان زمام السيطرة؟ وهل ما نحسبه استقراراً ليس سوى هدنة مؤقَّتة مع قوى الطبيعة؟ إنَّ مشاهد النيران المشتعلة في تلال وقرى الساحل السوري أظهرت مستوى من العجز البشري أمام عنصرٍ ظلَّ مركزياً في مسيرة التطور البشري، فالنار هنا ليست مجرَّد ظاهرة فيزيائية، إنَّما هي كيان رمزي، يحمل في وهجه معنى التحوُّل والمعرفة والخطر، تماماً كما مثَّلت عبر التاريخ لحظة التقاء الإنسان بالعالم، فمرة كانت أداة للبقاء، ومرة كانت قوة للفناء.
تاريخياً، احتلَّت النار موقعاً مركزياً في أنساق التفسير الإنساني، متأرجحةً بين أفق الميثولوجيا وتأملات الفلسفة. ففي الميثولوجيا القديمة، كما في الفلسفة الطبيعية الإغريقية، حضرت النار بوصفها رمزاً للتحوُّل المستمر، وللقوة التي لا تستقرُّ على حال. وفي أنظمة دينية وثقافية لاحقة، اكتسبت دلالات مزدوجة؛ فهي أداة للعقاب والتطهُّر معاً. وانطلاقاً من هذا البعد الرمزي العميق، تخرج حرائق الغابات عن كونها مجرَّد ظواهر طبيعية موسمية، وتغدو علامات على أزمة أوسع، تكشف خللاً في تموضع الإنسان داخل البيئة التي يعيش فيها. فهي تشير إلى تصدُّع العلاقة بين الكائن البشري وعنصر ظلَّ لفترات طويلة مفتاحاً لتقدُّمه، قبل أن يتحوَّل إلى مرآة تعكس هشاشته، وتعيد مساءلته عن حدود سلطته وعمق اغترابه عن الطبيعة التي لم يعد قادراً على التعايش معها من دون أن يدمِّرها أو تدمِّره.
لقد كانت النار، في تصوُّر الفلسفة القديمة، تعبيراً عن كيان رمزي كثيف، يحيل إلى البدايات الأولى، لذلك رأى هيراقليطس أنَّ النار هي المبدأ الكوني الذي تنبثق منه الموجودات، وأصل كلِّ حركة وتحوُّل؛ فحين قال “كلُّ شيء يتدفَّق” كان يحدِّد شرط الوجود ذاته، حيث تُجسِّد النار هذا التدفُّق الأزلي، الحارق والولَّاد في آن معاً. فحين نرى الجبال تحترق، والقرى تُخلى، نكون أمام لحظة كاشفة، تُعيدنا إلى تلك الحقيقة التي كثيراً ما نتجنَّبها، وهي أنَّ كلَّ ما نظنُّه ثابتاً، يمكن أن يتلاشى فجأة، داخل لهب لا يعترف بالخصوصية ولا يعبأ بالعاطفة، هذه الحقيقة تذكِّرنا بأن التعلُّق هشٌّ، وأنَّ الوجود نفسه معرَّض لأن يُبتلع في دورة كونية لا تستأذن أحداً.
ختاماً، تكشف حرائق الساحل السوري عن أكثر من مجرَّد دمار بيئي؛ إنَّها لحظة انكشاف وجودي تعيد الإنسان إلى مواجهة عنيفة مع العناصر التي ظنَّ أنَّه روَّضها، فالنار التي كانت في جوهر الحضارة أداة للبناء، تنقلب هنا إلى رمز للفقد، للذاكرة المحترقة، وللحدود القصوى للعجز البشري
وفي الأسطورة اليونانية، يظهر “بروميثيوس” كأحد أكثر الرموز إشكالية في علاقة الإنسان بالمعرفة والقوة، فحين سرق النار من الآلهة وقدَّمها للبشر كان يعيد تشكيل موقع الإنسان في الكون، محرِّكاً إياه من التبعية إلى المشاركة في طاقة الخلق، لكنَّ هذه النار لم تكن هدية مجانية، بل نواة توترٍ أبديِّ بين الرغبة والعقاب، ومنذ تلك اللحظة الرمزية، ظلّت النار مرتبطة بثنائية دقيقة؛ فهي الأداة التي بنت حضارة الإنسان من جهة، ولكنَّها في عمق المخيال، لم تفقد صورتها الأولى بوصفها قوة منفلتة عن إرادة البشر.
اندلعت حرائق الساحل من تفاعل غامض بين الريح والجفاف والشرارة، وربما من أثر يدٍ بشرية، لا تزال هويتها قيد المساءلة، وحين اشتعلت التلال وبدأ الناس يرحلون عن بيوتهم تكشَّف ضعف البنية التي أنشأها الإنسان حول نفسه، من بيوت وطرقات وأسوار، فكلُّ ما بدا ثابتاً، تحوَّل إلى خطوط هشَّة الصمود أمام جدار من اللهب. ولم يظهر الإنسان، في تلك اللحظات، في صورته المتسيِّدة كما اعتاد أن يظهر، فهو أمام النار المشتعلة بدا وكأنَّه كائن صغير يحمل خرطوم ماء في وجه حريق كوني، وفي هذه الهشاشة العميقة انكشف جوهر الكائن البشري في إصراره على البقاء ومواجهة ما لا يروَّض.
ومع ذلك وقف رجال الدفاع المدني، وعناصر الإطفاء المتطوعون، والفلاحون، وسط هذا السواد، وبين طبقات الدخان الكثيف، على الرغم من أنَّهم لم يمتلكوا وسائل الانتصار، لكنَّهم امتلكوا ما لا تقوى النار على إحراقه؛ امتلكوا جرأة الوقوف، والإصرار على الفعل، حتى حين يتعذَّر التغيير. مشاهد رجال الإطفاء وهم يتسلَّقون التلال بآليات بدائية، وبعزم يشبه الأساطير، تفتح أمامنا سؤالاً أبعد من الظرف الطارئ: هل في الإصرار على الإنقاذ، حتى حين يكون المستحيل هو الأفق، ما يدلُّ على جوهر الإنسان بوصفه كائناً لا يكتفي بالنجاة، بل يسعى لأن يترك أثراً، حتى في الرماد؟ في مشاهد الإطفاء هذه، يتجلَّى المعنى المحتجب، ففي الجهد الذي لا توازيه النتيجة، وفي التعب المجرَّد من الضمان، يعود التضامن إلى معناه الأصيل، ويظهر الفعل البشري في أكثر صوره صدقاً، حيث يصبح الإنسان، كما قال هايدغر، “في العالم، لا فوقه”، مندمجاً في لحظته، غير متعالٍ عليها؛ لأنَّه الأقدر على إدراك معنى الحضور وسط التهديد.
ختاماً، تكشف حرائق الساحل السوري عن أكثر من مجرَّد دمار بيئي؛ إنَّها لحظة انكشاف وجودي تعيد الإنسان إلى مواجهة عنيفة مع العناصر التي ظنَّ أنَّه روَّضها، فالنار التي كانت في جوهر الحضارة أداة للبناء، تنقلب هنا إلى رمز للفقد، للذاكرة المحترقة، وللحدود القصوى للعجز البشري، وفي مواجهة هذا اللهيب، لا تبرز القوة التقنية، بل القوة الأخلاقية، كما جسَّدتها جهود رجال الدفاع المدني والمتطوعين، ويبقى السؤال: هل يمكن للإنسان، وهو يواجه النار التي أشعلها أو عجز عن احتوائها، أن يخرج منها أكثر فهماً لذاته وقد تخلَّى عن وهم السيطرة، وبدأ يدرك أنَّ نجاته لا تأتي من الهيمنة، إنَّما بالاعتراف بحدود قوته، وإعادة صياغة علاقته بالعالم؟
المصدر: تلفزيون سوريا