
أنهت عملية إضرام النار الرمزية بسلاح فصيل من عناصر “حزب العمال الكردستاني” بجوار السليمانية، نحو خمسة عقود من الحراك الذي أطلقه عبد الله أوجلان، مؤسس التنظيم، لكنها فتحت الباب أمام تفعيل مسار جديد لحوار وطني تركي، يتناول أحد أهم الملفات العالقة والدائمة السخونة، بامتداداته الأمنية والسياسية والاجتماعية، على المستويين الداخلي والخارجي.
قرر أوجلان أن يقوم بما يشبه “ريسيت” لأفكاره وطروحاته السابقة، معلنًا شروعه في إعداد “مانيفستو” مغاير يُوضح فيه أسباب ودوافع دعمه للطروحات والأفكار الجديدة. يُنهي “أبو” قبل ذلك التنظيم الذي أسسه، ويتخلى عن السلاح الذي رفعه دفاعًا عن مبادئ وأُسس، ويسحب خريطة طريق رسمها في أواخر السبعينيات نحو حلم الدولة، مُرجّحًا بدلًا من ذلك الحوار والعمل السياسي وديمقراطية الحل.
لم تتردد قيادات “تحالف الجمهور” الحاكم من ناحيتها في الترحيب بهذا التحول، معلنة استعدادها لفتح باب النقاش السياسي تحت قبة البرلمان. ستُطرح الآن خارطة طريق لرزمة من التعديلات القانونية والسياسية والاجتماعية، بعد عقد كامل على فشل المحاولة الأخيرة في 2013.
فما الذي تغيّر؟ ولماذا الآن؟ وماذا بعد؟
ترمي القيادات السياسية الكرة في ملعب البرلمان، وهي محقّة في ذلك لأنه أفضل الخيارات.
الأنظار ستبقى موجهة نحو لجنة برلمانية مشكلة من الأحزاب الرئيسية في البلاد، تعمل على إعداد مسودة اقتراحات لتعديلات في كثير من القوانين، تضع في الحسبان، وفي آنٍ واحد، مطالب “حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب”، وبنية المجتمع التركي وتوازناته.
من الواضح أن المحاولة الرابعة لتحريك الملف الكردي في شقّه التركي تسير هذه المرة بوتيرة مختلفة، وتبدو أكثر إيجابية من سابقاتها في 1993 و2009 و2013. فهي تأتي وسط تموضع سياسي يتقدّم، مصحوبا بمؤشرات على قراءات سياسية أوسع، ورغبة مشتركة في كسر الجمود المستمر منذ ما يقارب نصف قرن.
من الواضح أن المحاولة الرابعة لتحريك الملف الكردي في شقّه التركي تسير هذه المرة بوتيرة مختلفة، وتبدو أكثر إيجابية من سابقاتها في 1993 و2009 و2013. فهي تأتي وسط تموضع سياسي يتقدّم، مصحوبا بمؤشرات على قراءات سياسية أوسع، ورغبة مشتركة في كسر الجمود المستمر منذ ما يقارب نصف قرن.
كم هو عدد الذين كانوا يراهنون على “الدعم اللوجستي” الذي قُدم لأوجلان، والسماح له بتوجيه رسالة صوتية مصوّرة لمناصريه والرأي العام المحلي والدولي من سجنه؟
دور البرلمان مهم حتمًا، لكن الاتصالات التي تجري بعيدًا عن الأضواء لا تقلّ أهمية.
هناك انطلاقة جديدة تتطلب قدرًا عاليًا من التنسيق والتواصل مع الفاعلين المؤثرين في الملف، وهناك دولت بهتشلي “العامل” الإيجابي وليس السلبي هذه المرة.
من بين الأولويات حتمًا :
مصير أوجلان وبعض القيادات الكردية في السجون،
ومصير كوادر وعناصر وأسر “حزب العمال” في سوريا والعراق،
وشكل التعديلات والإصلاحات في التشريعات القانونية المتعلقة بالحرب على الإرهاب وتفرعاتها،
والتفاصيل التي ستُعتمد خلال التعامل مع مصير عناصر التنظيم .
فهل تصل الأمور إلى تسجيل اختراق سياسي وحزبي في العلاقة بين حزبي “العدالة والتنمية” و”الشعب الجمهوري”، بدعم من “الحركة القومية” و”حزب ديم”، لإنجاز المفاجأة الكبرى التي يحلم بها كثيرون في تركيا، وهي إعداد مسودة دستور عصري حديث، في إطار السعي نحو صناعة مشهد وطني تاريخي حقيقي؟
بعد أكثر من أربعة أشهر على رسالة عبد الله أوجلان من سجنه في جزيرة “إيمرالي” إلى “حزب العمال”، والتي يدعو فيها إلى فسخ التنظيم وإلقاء السلاح، واستجابة المؤتمر الاستثنائي الثاني عشر للحزب، في 12 أيار 2025 لمطلبه، يبرز السؤال: من خيّب آمال أوجلان وأوصله إلى هذه النقطة؟ ليست المسألة مرتبطة فقط بمشروعه الذي وصل إلى طريق مسدود، بل أيضًا بمتطلبات المرحلة والتحولات المتسارعة في المشهد المحلي والإقليمي.
عندما: نسمع أردوغان يردد أمام كتلة حزبه البرلمانية ” نأمل أن تُكلَّل هذه العملية بالنجاح في أقرب وقت ممكن، دون أن تتعرض لأي انتكاسة، ودون أن تُمنح قوى الظلام فرصةً لتخريبها أو عرقلتها “،
ونتابع أوجلان وهو يعلن أن هدف الدولة القومية الكردية لم يعد قائمًا على لائحة مطالب ما قبل نصف قرن، ونرصد حراك رئيس جهاز الاستخبارات التركية، إبراهيم كالن، على خط أربيل – بغداد – دمشق، ويُفاجئنا المبعوث الأميركي باراك من دمشق وهو يبذل جهود التقريب بين الرئاسة السورية ومظلوم عبدي، لدفع الأمور نحو تنفيذ تفاهمات العاشر من آذار، فالرسائل كلها تتقاطع عند البُعد الخارجي والشق الإقليمي الذي تحوّل إلى فرصة مواتية لا تريد الأطراف التفريط بها.
يتضح جليًا أن:
وصول الأمور إلى ما هي عليه بعد رسائل بهتشلي الانفتاحية، يعني أن هناك متطلبات وقراءات سياسية لا بد من التعامل السريع معها على المستويين الداخلي والخارجي.
وأن المتغيرات العسكرية والسياسية في الإقليم، على الجبهات اللبنانية والسورية والعراقية والإيرانية، تستدعي مثل هذه الخطوات كي لا تفوّت أنقرة الفرصة.
وأن الحراك الدائر على خط أنقرة – إيمرالي – أربيل – السليمانية – بغداد – دمشق – القامشلي، يشارك فيه أكثر من طرف.
وأن اللافت هذه المرة هو دخول اللاعب الأميركي على الخط بشكل مباشر، من خلال تعيين توماس باراك وتحركاته السريعة في أكثر من اتجاه .
وأن التحولات المرتقبة في المشهد الإقليمي، تتطلب قراءات محلية تركية جديدة على طريق التعامل مع أزمات ومشكلات عالقة، يتقدمها الملف الكردي.
وأن المسألة مرتبطة بمتغيرات لا تريد أنقرة تحولها إلى مفاجآت تنعكس سلبًا على مصالحها في الداخل والخارج. وأن ما يجري سيسحب ورقة “حزب العمال” من يد لاعبين محليين وإقليميين لوّحوا بها لعقود ضد أنقرة .
وأن ما سيحصل سيدفع الجانب التركي إلى إعادة بناء استراتيجيته الدفاعية والأمنية على مستوى الإقليم، بعد التخلص من أعباء ملف باهظ الكلفة.
قد يكون الرئيس التركي يبالغ عندما يرفع معادلة “تركيا خالية من الإرهاب، إقليم خالٍ من الإرهاب” لأن إقناع نتنياهو، الذي لا يزال يعوّل على قوته العسكرية وشعاراته التصعيدية، لن يكون سهلًا. لكن المؤكد هو وجود رغبة تركية–كردية، وبدعم إقليمي ودولي، في رفع الحجر من وسط الطريق.
من “المانيفستو” إلى “الريسيت”، رحلة طويلة ومليئة بالمفارقات، فالأول ابنُ الفكر اليساري العتيق، والثاني وليد التقنية الغربية. وها هو أوجلان، اليساري الماركسي القديم، يجلس أمام الـ”أوتوكيو”، يقرأ بيانًا مكتوبًا بدقة، مستفيدًا من أدوات الحداثة، فهل يمكن لأوجلان حقًا إعادة تشغيل النظام القديم بزرّ عصري، وكتابة مانيفستو حديث يُقرأ مرة أخرى من شاشة إلكترونية ؟
المصدر: تلفزيون سوريا