
دخلت عملية السلام الجديدة بين تركيا وحزب العمّال الكردستاني مرحلتها الأكثر حساسية، والتي ترتبط بنزع سلاح التنظيم بالتوازي مع خطوات يتعيّن على الحكومة التركية اتخاذها في إطار هذه العملية، وفي مقدّمتها تشكيل لجنة برلمانية لمناقشة المتطلبات القانونية لتحقيق السلام. ورغم أن هذه العملية ليست الأولى من نوعها، إذ سبق أن جرت عملية مشابهة في عام 2013 واستمرّت عامين، فإن السلام الجديد يرتكز اليوم على أرضية أكثر متانة. من ناحية، يمنح الاستقرار السياسي الداخلي في تركيا والدعم الشعبي الواسع لعملية السلام واحتضان حزب الحركة القومية لها زخماً قوياً لم يكن متاحاً بالكامل خلال العقد الماضي، ما يشكّل رافعة إضافية لنجاح هذه المبادرة. ومن ناحية أخرى، وصلت رؤية زعيم حزب العمّال الكردستاني عبد الله أوجلان إلى مستوى متقدّم من الوعي بفشل الكفاح المسلح ومشروع الدولة القومية. فمن جهة، بات الحزب، بنهجه التقليدي وسلاحه، غير قادرٍ على خوض سنواتٍ إضافيةٍ من القتال مع دولةٍ تمتلك تفوّقاً تكنولوجياً وطائرات مسيّرة ذات كفاءة عالية. ومن جهة أخرى، أوجدت خمسة عقود من الصراع أجيالاً كردية جديدة تبحث عن حليف للكرد غير الجبال.
علاوة على ذلك، لعبت التحولات الإقليمية والدولية دوراً حاسماً في تهيئة الظروف لهذا السلام الجديد، فقد عزّزت تركيا نفوذها في محيطها الإقليمي حيث ينتشر الأكراد مقارنة بالعقود السابقة، كما تغيرت ديناميكيات سورية، وتعيد الولايات المتحدة صياغة دورها وتحالفاتها في الشرق الأوسط، بينما تراجع نفوذ إيران التي استثمرت طويلاً في القضية الكردية لمنافسة تركيا. أوجدت هذه العوامل بيئة دفعت حزب العمّال الكردستاني إلى التكيف منتقلاً من مرحلة الكفاح المسلح إلى السعي نحو السلام. وخلال أكثر من عقدين من حكمه، أطلق الرئيس رجب طيب أردوغان مبادراتٍ عديدةً غيّرت وجه تركيا، وكانت محفوفة بالفرص والتحدّيات معاً، ومنها مبادرته للانفتاح على الأكراد ومحاولة إحلال السلام معهم. لا يزال من غير الواضح ما إذا كان أردوغان سيُنهي مسيرته السياسية مع ولايته الرئاسية الحالية أم سيسعى إلى تمديدها، لكنه يبدو مصممّاً على تخليد اسمه في التاريخ الزعيم التركي الوحيد الذي نجح في إحلال السلام مع الأكراد.
عزّزت تركيا نفوذها في محيطها الإقليمي حيث ينتشر الأكراد مقارنة بالعقود السابقة
كلف الصراع مع حزب العمّال الكردستاني تركيا أكثر من أربعين ألف قتيل وما يقارب تريليوني دولار من الخسائر، فضلاً عن تدهور السياسة الداخلية وعلاقات تركيا مع جيرانها وشركائها الغربيين عقوداً. وهذا يبرز حجم الفوائد المتعدّدة التي ستجنيها أنقرة إذا نجحت عملية السلام الجديدة. ومع ذلك، تثير هذه العملية نقاشات مثيرة للجدل حول الأثمان التي قد تدفعها تركيا، إذ يخشى معارضون من وجود صفقة غير معلنة بين الدولة وحزب العمّال. ويحرص أردوغان على تبديد هذه المخاوف مؤكّداً أن عملية السلام لا تتضمّن تنازلاتٍ تمسّ هوية تركيا أو نظامها السياسي. وبغض النظر عن ذلك، سيفتح السلام الجديد آفاقاً جديدة للانخراط الكردي في السياسة الداخلية بمستوياتٍ غير مسبوقة، ما سيعيد تشكيل الخريطة الحزبية والسياسية في تركيا على نطاق واسع. يبدو أن هذا التشكيل الجديد يخدم طموح أردوغان لتحقيق هدفٍ آخر، الانتقال إلى دستور مدني كامل. ومن المرجّح أن تسهم عملية السلام في كسب دعم حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الكردي لمشروع تغيير الدستور. وهذا لا يعني بالضرورة أن العملية مصمّمة حصرياً لأهداف سياسية داخلية، لكن نتائجها على الساحة الداخلية تظل ذات أهمية كبيرة لأردوغان.
تظلّ المخاوف من المخاطر التي تهدّد هذه العملية مبرّرة، خصوصاً أن عملية سلام مشابهة في العقد الماضي انهارت. وعلى الرغم من أن الأرضية الحالية أكثر متانة، فإنها ليست مستقرّة تماماً وقابلة للاهتزاز. تبرُز هنا أربعة مخاطر رئيسية: أولها انعدام الثقة بين تركيا وحزب العمّال الكردستاني الذي قد يقوّض العملية بمرور الوقت. ثانيًا، احتمال إطالة أمد الترتيبات القانونية المتعلقة بتسوية أوضاع مقاتلي الحزب وقادته وإعادة دمجهم في المجتمع، ما قد يؤدّي إلى استقطاب سياسي داخلي وعرضة للمزايدات الحزبية. ثالثاً، احتمال فشل مسار التسوية السياسية بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والدولة السورية الجديدة، الذي يشكل عامل ضغط مهم على عملية السلام التركية – الكردية. وأخيراً، احتمال أن تحاول أطرافٌ إقليميةٌ ودوليةٌ متضرّرة من هذه العملية، مثل الولايات المتحدة وإيران والعراق، وبدرجة أقل إسرائيل ودول أوروبية، عرقلتها.
لعبت التحولات الإقليمية والدولية دوراً حاسماً في تهيئة الظروف للسلام الجديد بين تركيا و”العمّال الكردستاني“
قد تستغرق عملية السلام الحالية وقتاً لتتضح قدرتها على تحقيق ما لم تنجزه العملية السابقة، لكنها تبدو أكثر متانة وتأثيراً على الداخل التركي والحالة الكردية في المنطقة. ومن المحتمل أن تؤدّي، في النهاية، إلى إعادة صياغة القضية الكردية وعلاقتها مع الدول التي يعيش فيها الأكراد، خصوصاً سورية والعراق وإيران، التي رغم غيابها النسبي عن التحوّلات الكردية الحالية، لا تزال معنية بها وقادرة على التأثير في مساراتها.
المصدر: العربي الجديد