
يشير الخراب الكبير في البلاد إلى فظاعة السياسة الأسدية في حرق البلاد وتدميرها، على المستويات جميعها، من الدمار المادي إلى المعنوي، حيث لا تجد مستوى ما في البلاد يمكن البناء عليه.
هذا الخراب يلقي بثقله على السلطة الجديدة في كيفية التعامل مع إعادة بناء مؤسسات الدولة، خاصة أنها تعاني من نقص الخبرات والكفاءات من جهة، وتعتمد على قاعدة الولاء أكثر من اعتمادها على الكفاءات في تشكيلاتها لمفاصل الدولة، ناهيك عن الخلط بين السلطة والدولة.
وفيما يتعلّق بالمعارضة، وهي التي عانت كأجسام سياسية من عملية قمع مزمنة منذ حوالي أكثر من أربعة عقود (فترة الثمانينيات)، فاقتصر عملها السياسي نتيجة لذلك على التخفّي من أجهزة الأمن وملاحقتها، وبالتالي لم تمارس العمل السياسي بمعناه الواسع، كان مفهوم الدولة مختلطاً مع مفهوم السلطة إن لم يكن غائباً بالكامل.
في سوريا اليوم، سوريا ما بعد الأسدية، يمكن القول إن التحديات والمصاعب تتوالد، فكل يوم هناك مشكلة جديدة أو متولدة عن حالة الخراب التي تعيش فيها البلاد..
ثمة فارق بين السلطة كأجهزة ومسؤولين عن تشريع القرارات وتنفيذها، والدولة كمؤسسات تدعي الحياد تجاه الناس من خلال قوانين لا تميز بينهم، وقوانين أخرى تنظم عمل المؤسسات ومصالح الناس في التعليم والصحة والطرق والكهرباء والمياه والنقل وغيرها، فالسلطة حتى ضمن الأجواء الديمقراطية تتغيّر كل فترة زمنية، وتغير معها الوجوه البارزة الحاكمة التي يكون لها رؤى خاصة في السياسة والتنظيم، هذه العملية لا تنسف هياكل مؤسسات الدولة وتعيد صياغتها من جديد، بل تبني وفق أنظمتها لكن برؤى مختلفة.
بالطبع يختلف الأمر في حالات الثورات والانقلابات، التي يرافقها عمليات هدم كبيرة، وهو أمر مفهوم في فترة معينة، لكن يتوجب على تلك السلطات الجديدة، ولدواعي استمرارها أولاً، البدء بعمليات إعادة البناء، الذي يشترط في نجاحه على التشارك والكفاءة، بمعنى آخر تفعيل دور بيروقراطيي الدولة كجهات تنفيذية وذات خبرة في إدارة شؤون البلاد ومصالح الناس.
في سوريا اليوم، سوريا ما بعد الأسدية، يمكن القول إن التحديات والمصاعب تتوالد، فكل يوم هناك مشكلة جديدة أو متولدة عن حالة الخراب التي تعيش فيها البلاد، والأهم حالة الانقسامات المجتمعية العميقة، خاصة الانقسامات الطائفية والعرقية، لدرجة غيّب الانتماء إلى الأديان والمذاهب الانتماء الوطني.
وسط هذه المصاعب تتحرّك إدارة الرئيس أحمد الشرع معتمدة على تجربتها السابقة في إدارة محافظة إدلب تحت إدارة حكومة الإنقاذ، التي ما تزال تظهر في بعض الأحيان (الشرطة وآلياتها)، إضافة إلى فروق الرواتب، وعلى قيادات الفصائل التي شاركت في عملية التحرير، وهو ما يضيف مشكلة أخرى للبلاد حيث يشعر كثيرون بحالة من الإقصاء، الأمر الذي يخلق شكلاً جديداً من الانقسامات المناطقبة التي لا ضرورة لها.
في مقابل حكومة الرئيس الشرع، التي تحظى بشعبية كبيرة لسبب بسيط ومحق، وهو الخلاص من الكابوس الأسدي، تبرز مواقف معارضة عدة، بعضها نتاج الانقسامات الطائفية، فهي تنظر إلى الرئيس وحكومته نظرة ثابتة تعتمد على تاريخ نشوء هيئة تحرير الشام كتنظيم سلفي جهادي، رغم كل التغيرات والتوجهات الجديدة للإدارة الجديدة، حيث برزت في الفترة الأخيرة مجالس طائفية تشترط على الإدارة الجديدة شكلاً للدولة، والمفارقة أنها تطالب بالعلمانية، وهو ما يكشف زيف مطالباتها.
وإضافة إلى تلك “المعارضة”، هناك معارضة قائمة على أساس عرقي متمثلة بمواقف الأحزاب الكردية التي تتراوح مطالبها بين الحكم الذاتي وتأسيس كيان قومي مستقل، في الوقت الذي ترفض حق الآخرين حتى في التعبير عن انتمائهم القومي، ويذهب بعضهم إلى اتهام العرب بالشوفينية محملين الجماعة كاملة وزر حكم البعث والأسدية، واتهام المسلمين السنة بالدواعش.
إنّ خلاص السوريين من الكابوس الأسدي إنجاز تاريخي وكبير، إنجاز يتوجب حمايته والدفاع عنه، والبناء عليه ومنع أي عودة للسابق تحت أي ظرف..
المعارضة السياسية هي الأضعف، وهي تعبيرات عن بقايا الأحزاب اليسارية ولشخصيات مستقلة، وهي تنقسم أيضاً إلى تيارات عدة، وأوّل تلك التيارات مَن يعارض الحكم الجديد، بسبب نشأة الرئيس وعلاقته بالحركة السلفية الجهادية، وكثيراً ما تتناغم مواقفهم مع المواقف السابقة ذات المرجعية الطائفية والعرقية، والتيار الآخر يتصف بالعقلانية والنقد من دون الوصول إلى حالة الرفض العدمي الذي يتميز بها التيار الأوّل، وهو حريص على إعادة بناء الدولة بشكل يسمح بمشاركة الكفاءات ومن دون أي تمييز، بحيث تكون الدولة للعموم، منتقداً حالة اعتماد الإدارة على الجماعة، والممارسات الأمنية السلبية التي تنتهك حقوق الإنسان والحريات الأساسية، التي دفع السوريون ثمناً باهظاً من أجلها، وكرّسها الإعلان الدستوري، داعياً أجهزة الدولة لتحمل مسؤوليتها تجاه الجميع.
إنّ خلاص السوريين من الكابوس الأسدي إنجاز تاريخي وكبير، إنجاز يتوجب حمايته والدفاع عنه، والبناء عليه ومنع أي عودة للسابق تحت أي ظرف، وأوّل ما يتطلب من الجميع التشارك وتحمل المسؤولية، التي تقع على عاتق الإدارة الجديدة أولاً من خلال إفساح المجال ومشاركة الكفاءات الوطنية، وعلى التيارات السياسية من خلال العمل الجاد على بناء حركات وجماعات سياسية لا أيديولوجية، تيارات تركز على البرامج التي تعكس مصالح الغالبية، ويمكن أن تشكّل حائط صد أو قوى كابحة لاستفراد السلطة، أياً كان منشأها وطريقة وصولها للحكم، فمعركة إعادة البناء طويلة تتطلب مشاركة الجميع، وأول ما تتطلبه التشارك والنقد، وهو أمر ممكن في ظل مناخ الحريات المتاح الذي يتوجب الدفاع عنه بكل الوسائل، لا الرفض العدمي لكل ما هو قائم.
كل هذا يستدعي تغيير النظرة إلى الدولة وعدم الخلط بينها وبين السلطة، إضافة إلى الخلاص من صنم الحزبية والانتماء الأيديولوجي، وهو ما يضمن نجاح تجربة إعادة بناء الدولة والبلد، خاصة في بلد عانى من كوارث لا مثيل لها في عهد الأسدية.
المصدر: تلفزيون سوريا