
بعد الجولة الأخيرة من المواجهة مع إيران، وتدمير دولة الاحتلال الإسرائيلي نسبةً كبيرةً من القدرات العسكرية الإيرانية، وقصف المنشآت النووية في نطنز وفوردو وأصفهان، واغتيال طبقة قيادية كاملة من النخبة العسكرية والأمنية في إيران، يسود شعور متزايد في أروقة صناعة القرار في دولة الاحتلال بأن الطريق نحو الهيمنة الإقليمية بات ممهَّدًا.
ويعزِّز هذا الشعور أن التفوق الملحوظ في المواجهة الأخيرة جاء بعد فرض تفوّق عسكري صهيوني في لبنان، وإضعاف حزب الله بدرجة كبيرة لم تمكّنه من إحداث أي ردّ فعل يُغيّر المعادلة حتى اللحظة، فضلًا عن الاعتداءات التي نفذتها إسرائيل جوًا وبرًا في سوريا. ولهذا، بدأ الحديث داخل إسرائيل عن الهيمنة الإقليمية يتزايد بصورة لافتة.
هناك اعتقاد ما أن إسرائيل لم تستطع تحقيق أيٍّ من أهدافها المعلنة في قطاع غزة بعد أكثر من 620 يومًا من القتال ضد من تعتبرهم أضعف خصومها، وهي حركة حماس.
تعتقد إسرائيل أنها مهيمنة على المنطقة العربية منذ عقود، وعلى جميع جيرانها العرب. والآن، بعد الجولة الأخيرة من المواجهة مع إيران، ترى أنها كرّست تفوقًا عسكريًا عليها، وهي التي كانت تُعدّ التهديد الإقليمي الأبرز لإسرائيل منذ أكثر من أربعة عقود. فقد كانت إسرائيل ترى نفسها في حالة راحة إقليمية مع دول الجوار منذ عام 1979، تاريخ توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، إلا أن التهديد الإيراني ظلّ هاجسًا دائمًا لها. لذلك، تعتقد إسرائيل اليوم أن تراجع الخطر الإيراني إلى حدّ كبير يؤهلها لتكون القوة المهيمنة بلا منازع في الشرق الأوسط.
ومع ذلك، هناك نقاط رئيسة تُبيّن صعوبة تحقق هذا الطموح، رغم حالة التفوق التي تتمتع بها إسرائيل حاليًا مقارنة بجوارها وعدد من دول المنطقة:
أولًا:
لقد حصلت إسرائيل على دعم مفتوح وغير مشروط من الولايات المتحدة الأميركية ومن عدد من الدول الغربية منذ عام 1948، وتلقّت دعمًا استخباراتيًا ضخمًا وتكنولوجيا عسكرية متقدمة مكّنتها من تحقيق هذا التفوق. غير أن هذا يؤكّد في الوقت ذاته مدى اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة في أي خطوة تتعلق بمشروع الهيمنة الإقليمية.
ويُضاف إلى ذلك أن كثيرًا من دول المنطقة تعتمد بدورها على علاقتها مع الولايات المتحدة، ما يمنعها من اتخاذ أي موقف عدائي تجاه إسرائيل خوفًا من إغضاب الإدارة الأميركية. كما أن التدخل الأميركي في الشأن الإسرائيلي، لا سيما الداخلي، آخذٌ في التزايد، ويكفي أن نستذكر كيف أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه لن يسمح بمحاكمة صديقه بنيامين نتنياهو أمام القضاء الإسرائيلي في قضية فساد مستمرة منذ سنوات، رغم محاولات نتنياهو المستمرة للتهرب منها. وقد يبدو هذا تدخلاً في سبيل حماية شخصية سياسية، إلا أنه في جوهره يعكس عمق التدخل الأميركي في القرارين الداخلي والخارجي الإسرائيلي.
ثانيًا:
رغم ما سبق، هناك اعتقاد ما أن إسرائيل لم تستطع تحقيق أيٍّ من أهدافها المعلنة في قطاع غزة بعد أكثر من 620 يومًا من القتال ضد من تعتبرهم أضعف خصومها، وهي حركة حماس. كما أنها لم تتمكن من القضاء الكامل على حزب الله، ولا تزال جماعة أنصار الله (الحوثيون) في اليمن تطلق المسيَّرات والصواريخ باتجاه الأراضي الإسرائيلية. هذا فضلًا عن أن إيران، على الرغم من الضربات القاسية التي تعرّضت لها، لم تُظهر أي تراجع في دعمها لمحور المقاومة.
ثالثًا:
إن الناظر في الجغرافيا والديمغرافيا داخل فلسطين التاريخية، يدرك مدى صعوبة أن تصل إسرائيل إلى حالة “اللا تهديد” في محيطها وداخلها. فالتركيبة السكانية الفلسطينية المتنامية، ومعاداة الشعوب العربية الواسعة للاحتلال الإسرائيلي، تجعل من مهمة التحول إلى قوة إقليمية مهيمنة أمرًا بالغ الصعوبة. إذ إن أي قوة مهيمنة لا بدّ أن تكون مطمئنة من الداخل، وخالية من التهديدات في جوارها، حتى تستطيع توسيع نفوذها الإقليمي بفاعلية.
رابعًا:
إن الصورة الوحشية والدموية التي التصقت بإسرائيل بفعل قتلها لعشرات الآلاف من النساء والأطفال في غزة، واستهدافها الصحفيين والمسعفين والمدنيين، أدت إلى نفور عالمي واسع منها. ولن تكفي سبعون سنة أخرى لمسح هذه الصورة من الوعي الجمعي العالمي. كما أن عملية 7 أكتوبر أعادت إسرائيل إلى حقيقتها كقوة احتلالية، بعدما حاولت تسويق نفسها كقوة “طبيعية” في المنطقة من خلال اتفاقيات التطبيع المعروفة باسم “اتفاقيات أبراهام” منذ عام 2018.
من أهم المعوقات أمام أي مشروع هيمنة إسرائيلية، أن تفوق دولة ما في منطقة مضطربة مثل الشرق الأوسط من شأنه أن يدفع دولًا أخرى إلى إعادة التوازن عبر تحالفات إقليمية مضادة.
خامسًا:
لقد فشلت إسرائيل، منذ نشأتها عام 1948، في تصفية القضية الفلسطينية أو تهجير الشعب الفلسطيني، رغم كل ما بذلته من حروب وسياسات عدوانية. وتجدد روح المقاومة لدى الشعب الفلسطيني بعد كل عدوان، يؤكّد أن هذه المعضلة ستبقى قائمة إلى أن ينتهي الاحتلال، ويُحقّق حلٌّ عادلٌ لقضية فلسطين.
سادسًا:
من أهم المعوقات أمام أي مشروع هيمنة إسرائيلية، أن تفوق دولة ما في منطقة مضطربة مثل الشرق الأوسط من شأنه أن يدفع دولًا أخرى إلى إعادة التوازن عبر تحالفات إقليمية مضادة. وربما نشهد في المستقبل تقاربًا استراتيجيًا بين دول مثل تركيا ومصر وبعض دول الخليج العربي، ما يعيد رسم خريطة المنطقة في شكل محاور جديدة، كما كان الحال في مراحل سابقة.
خلاصة القول
إن النظر إلى التاريخ، والجغرافيا، وتعريفات القوة المهيمنة، يجعل من الصعب تصوّر أن تصبح إسرائيل قوة مهيمنة في الشرق الأوسط. وقد تكون الجولة الأخيرة من المواجهة قد أغرت الإسرائيليين بالاعتقاد بأنهم دخلوا نادي القوى المهيمنة، لكنّ الآثار السياسية والاجتماعية والعسكرية لحرب طويلة مستمرة منذ عامين، لم تتضح بعد. وحين تتجلى هذه الآثار، ستكون النظرة الإسرائيلية أكثر تواضعًا، وأقرب إلى الواقع.
المصدر: تلفزيون سوريا