
لافتٌ أن محمد حسنين هيكل استُعيد كثيراً في حوائط عربٍ كثيرين وحساباتهم في “السوشيال ميديا”، في أيام الحرب الإسرائيلية الأميركية ضد إيران أخيراً، بانتقاء مقاطع ونُتفٍ من مقابلاتٍ تلفزيونية معه عن الجمهورية الإسلامية ومشروعها النووي وتحسّب الولايات المتحدة منها، وعن رؤية الدول العربية إليها والعلاقات معها. ويدلّ هذا على أن جاذبيّة الكاتب الكبير الراحل باقيةٌ لدى جمهورٍ عربيٍّ عريض، حتى من فئاتٍ شبابيةٍ لم تُعاصر حضورَه عقوداً في الفضاء الصحافي العربي. وهذا، في العموم، إيجابيٌّ، أقلّه من جانبين: أن هيكل، أياً كانت وجهات النظر بشأن اجتهاداته ورؤاه في غير ملفٍّ، رابَط على مواقف عروبيةٍ وطنيةٍ، مسكونةٍ بهاجس نهوض مصر والأمة، معاديةٍ لإسرائيل، ومناهضةٍ كلَّ تابعيةٍ للولايات المتحدّة. وأن الرجل كان شديد الحماس لأن يقيم العرب أفضل العلاقات مع إيران، وحافظ، حتى أيامه الأخيرة (توفي في 2016)، على إعجابه المفرط بها، وكثيراً ما كان مصيباً في تحليله الاستهداف الأميركي لها، والتربّص الإسرائيلي المديد ضدّها. ومن هذه الزاوية، يؤشّر “البحث” عن هيكل، في غضون حرب الـ12 يوماً، إلى تعاطفٍ واسعٍ في الجمهور العربي مع إيران، صدوراً عن عداءٍ مؤكّدٍ تجاه إسرائيل.
ومع إعجابٍ مديدٍ بهيكل يقيم في صاحب هذه الكلمات، ومع الاتفاق معه على وجوب أن تكون العلاقات العربية الإيرانية على أحسن حال، ثمّة أكثر من نقطة نظام في هذه الموضوعة وما يتصل بها من شؤون الجمهورية الإسلامية، يلزم أن لا يغفَل عنها من نشطوا في استعادة هيكل تلفزيونياً في هذا الخصوص، أولها أن الرجل لم يخدِش النظام في إيران بأي كلمة، وهو يسترسل في مراجعة علاقات الدول العربية معه. ومع تسليمٍ بمقادير محقّة في بعض انتقاداته مواقف عربية (مصرية وخليجية وغيرها) من إيران بعد الثورة، إلا أنه لم يرمِ أيَّ سهمٍ مما في جُعبته تجاه أيٍّ من خيارات النظام في طهران، وقد رأى أن من حقّ هذا النظام أن تكون له “مطامح ومطامع”، باعتبار أن السياسة أصلاً صراع مصالح. ومع وجاهةٍ، مجرّدةٍ، لهذا القول، لم يلتفت صاحبُنا إلى أن هذه المطامح تجاوزت اسمَها هذا وصارت نزوعاً، عسكرياً وأمنياً ومخابراتياً، إلى التدخّل في أمن غير بلد عربي وفي مجتمعاتٍ عربية. ومع كل الصحّة في استهجان هيكل العداء “غير المفهوم” الذي بادَر به بعض العرب الثورة في إيران، وفي قوله إن العرب أضاعوا فرصة تلك الثورة، إلا أنه، في المقابل، لم يحدّثنا عن مسؤوليات الجمهورية الإسلامية في هذا الخصوص، ولا عن الشكل الذي كان يلزَم أن تدير به العلاقات مع الأمة العربية، فقد آثرت مداخل مذهبية، وتشجيع بناء كياناتٍ ومليشياتٍ، من دون اكتراثٍ بمفاعيل أمور كهذه.
وكثيراً ما راح هيكل، للتدليل على رؤيةٍ استراتيجيةٍ لازمةٍ بشأن علاقةٍ عربيةٍ حسنة مع إيران، إلى زواج الأميرة فوزية، شقيقة الملك فاروق، من ولي عهد إيران، محمد رضا بهلوي، في 1939، بينما كانت مصر ذات زعامة وإيران متخلّفةً وفقيرة (لهذا السبب لم تتحمّس له الملكة نازلي) وقد رأى شيخ الأزهر، في حينه، مصطفى المراغي، في ذلك الزواج “توحيداً بين الشيعة والسنة لما فيه خيرٌ لصالح الدين”. وبعيداً عن أن العروسيْن تطلّقا بعد ثماني سنوات، وأن القصّة ليس في الوسع إعطاؤها حمولة زائدة، كان في الوسع أن تنبني، تالياً، علاقاتُ جوارٍ عربيةٍ إيرانيةٍ حسنة، لو أن كلاً من جانبيْها امتلك رؤيةً استراتيجيّة: العربية متحرّرةً من الخوف المحتمل (المسوّغ؟) الذي جاءت تُنذر به الثورة الإيرانية، وأيضاً من التأثيرات الأميركية والغربية، والإيرانية متحرّرة من الهوس بالتوسّع والنفوذ والتأزيم والتوتير.
لم يكن صاحب “أحاديث في العاصفة” يأتي على تحسّنٍ مطردٍ صارت عليه العلاقات العربية الإيرانية، بادرت إليها دول خليجية، وقد التقت مصالح ومدركاتٌ كثيرة، غير أنه واظب على خطابِه نفسه. وكان باعثاً على ما يفوق الاستهجان إلى الاستنكار أن يرى سورية، في غضون الثورة (سمّاها أزمة) التي نشبت فيها، “ساحة صراعٍ إقليمي”، وقد رأى “بعضَ” ما كان يجري في هذا البلد الذي اضطهد النظام فيه شعبَه مقصوداً به “إيران هدفاً أساسياً في ملء فضاء الشرق الأوسط”. … رحم الله الأستاذ، أصاب في مواضع بشأن العلاقة التي يلزم أن تكون مع إيران عربياً، غير أنه جاز فيه وصف صديقنا محمود الريماوي له (في مقالٍ في “العربي الجديد”) إنه “كان في حالةٍ أقرب ما تكون إلى تصوّفٍ سياسيٍّ في بازار إيراني”.
المصدر: العربي الجديد