
يضاف إلى كل ما سبق ، فإن ما أظهرته العمليات الحربية منذ السابع من أكتوبر 2023 ، من فساد سلوكي في المؤسسة العسكرية ومن إجرام شخصي وعام في سلوك المحاربين بتعمد قتل المدنيين حتى الأطفال , إضافة إلى ما أظهرته معاملة الأسرى بشكل أخلاقي إنساني نبيل من قبل المقاتلين الفلسطينيين ..على عكس الصورة المزروعة في عقول أفرادهم ..وكان ما كشفته وتحدثت عنه عدة أسيرات محررات عن تلك المعاملة الإنسانية النبيلة من جهة الفلسطينيين ؛ في مقابل الاستغلال الدنيء لهن وللمجندات الإسرائيليات جسديا وإرغامهن على تقديم خدمات غريزية دنيئة للضباط الصهاينة وابتزازهن ؛ من جهة أخرى ؛ سببا في دفع الكثيرات منهن إلى ترك الخدمة ومغادرة فلسطين نهائيا وكسر حاجز الخوف الذي كان مفروضا عليهن..
فوق هذا كله كانت تلك المعاملة الإنسانية النبيلة سببا في سقوط وهم التقدم الحضاري للمجتمع الصهيوني وعقيدته القتالية واكتشاف الحقيقة المؤكدة لنبل المقاتل الفلسطيني وإنسانية شعبه حتى في تعامله مع أسرى عدوه.
إن هذا الجانب الأخلاقي الإنساني يشكل قاعدة جوهرية في إعادة نظر الكثير من اليهود في مواقفهم وأفكارهم الصهيونية. ولسوف يتحول عدد لا بأس به منهم إلى مقاتلين ضد الصهيونية ومطالبين بالحرية لفلسطين وإنهاء الاحتلال كلية..وهذا ما يحصل بالفعل..
أما الخلافات بين المؤسسات والحرب على القضاء ومحاولة تطويعه للمؤسسة السياسية فبينت مدى تهافت وهشاشة ما يسمى بالديمقراطية في دولة الكيان..وما الفساد الذي بات شائعا في أوساط رجال السلطة إلا دافعا إضافيا لكثيرين منهم لفقدان الثقة ليس بالسلطة بل بالدولة التي قامت على أكاذيب فضحتها الممارسات..
حتى ان الأكثر تمسكا بالدين اليهودي أي ” الحريديم ” لا يعترفون بمشروعية دولة إسرائيل ولذلك يرفضون الخدمة العسكرية في جيشها.وهم لذلك يساهمون في فضح استغلال الصهيونية للخطاب الديني تبريرا لممارساتها العنصرية وتغطية على خلفياتها الإجرامية ..فيما تمثل جماعة ناطوري كارتا ( أي حراس المدينة ) ذروة التحدي للعقيدة الصهيونية فلا تعترف بدولة إسرائيل أصلا ومن خلفية دينية..
جميع هذه الأسباب مجتمعة تشكل دلائل واقعية وموضوعية هامة على أن إنهيار دولة الكيان قد بدأ ..وأن تصدع جبهته الداخلية غير المتماسكة أصلا وغير المتجانسة أساسا ؛ سوف يكون هو الطريق الأكيد لإنهياره في مدى منظور وغير بعيد..مع العلم أن كل الإسرائيليين ينتمون إلى جنسيات أخرى ويحملون جوازات سفر البلدان التي ينتمون إليها وجاؤوا منها..ومن اليسير عليهم العودة إلى بلادهم ومغادرة الأرض التي اغتصبوها من أهلها..فلا هي أرضهم ولا ينتمون إليها إلا بدوافع وهمية مصطنعة كاذبة لا تتفوق موضوعيا على عدم الإحساس بالأمان..فلا يضحون بحياتهم مقابل أرض لا يملكونها ومستقبل غامض لا يثقون به ..وهم حين يعودون إلى بلادهم لن يسكنوا الخيام كلاجئين بل يعودون كمواطنين عاديين فلن يواجهوا أية مشكلات حياتية أو قانونية أو حتى وظيفية. الأمر الذي يسهل عليهم فكرة المغادرة..سيما وانهم عموما من الميسورين..فهم ليسوا أصحاب الأرض وبالتالي ليسوا على استعداد لدفع حياتهم ثمنا للبقاء فيها وهم يعلمون أن بإمكانهم مغادرتها حفاظا على أمنهم ومستقبلهم الشخصي..وقد برأت تتوالى الأصوات اليهودية في العالم وحتى في الولايات المتحدة ، تتعالي مستنكرة جرائم دولة الكيان ومطالبة بوقف حرب الإبادة وجرائم التطهير العرقي في فلسطين..يمكن القول أن رأيا عاما شعبيا يتعاظم دوره لصالح شعب فلسطين حتى باتت قضية فلسطين قضية الأحرار في العالم وبدأت تأخذ موقعها كعامل أساسي في كشف وتعرية الصهيونية العالمية وإبتزازها للعالم الغربي في قضية غير إنسانية وتبريرا لسلوك وحشي إجرامي لم يعد يجد ما يبرره رغم كل القوانين التي تجرم ” معاداة السامية ” والتي تستخدم سلاحا لمنع أية انتقادات لدولة الصهاينة بل رعبا على من يعترض عليها أو ينتقدها ويقف الى جانب الحق الفلسطيني..أصبحت قضية فلسطين عنوانا لمطالب إنسانية ترفض الظلم والعدوان وترفض الهيمنة الصهيونية على صناعة القرار حتى في الداخل الغربي.وما فوز الشاب المسلم زهران محمداني برئاسة بلدية نيويوك على منافسه الملياردير الصهيوني سوى مؤشر مهم جدا على تلك التحولات الجارية في الضمير الشعبي العام وخصوصا في أميركا لصالح فلسطين ورفضا للتسلط الصهيوني وكل سردياته وادعاءاته..المحمداني خاض معركته تحت عنوان دعم فلسطين وتأييد مقاطعة دولة الصهاينة في قلب أهم معقل للنفوذ الصهيوني وتأثيره على السياسة الأميركية..نيويورك اكبر تجمع لليهود في العالم خارج فلسطين المحتلة..علما أن فعاليات يهودية كثيرة معادية للصهيونية أيدته ومنها السيناتور الأميركي بيرني ساندرز..هذا فيما شعب فلسطين الذي يدفع تضحيات باهظة جدا دفاعا عن أرضه متمسكا بها لأنه صاحب الحق بها وفيها رغم كل العدوان وكل الإغراءات الأميركية له بتأمين حياة مستقرة مطمئنة لمن يغادر فلسطين إلى أية بلاد أخرى..
الفلسطيني يدفع الثمن البالغ دفاعا عن أرضه رافضا كل إغراءاتهم ومواجها أشرس عدوان إجرامي وحشي والصهيوني يغادر لأنه غير مستعد للتضحية فيما تتوفر له كل أسباب الحياة المطمئنة خارج فلسطين..معادلة واضحة تبين من صاحب الأرض ومن مغتصبها..
في مقال نشرته صحيفة هآرتس يوم الإثنين الماضي في 16 حزيران الحالي قال الكاتب ليفي كوهين: أليس من الأفضل أن نغادر هذه الأرض ونتركها لأصحابها الأصليين “.. وذكر أن مليون ” إسرائيلي ” غادر فلسطين منذ طوفان الأقصى..
وتحدث الإعلام العبري أن ما مجموعه خمسة وعشرون ألف مستوطن طلبوا المغادرة في يوم واحد..في 21 من شهر حزيران الحالي..فضلا عن عشرات آلاف الذين يغادرون عبر البحر أو بريا دون إذن أو تصريح..وحينما تصل الأمور حدا دفع الحكومة لاتخاذ قرار بمنع مغادرة البلاد؛ فهذا يدل على تدهور داخلي متفاقم وفقدان الثقة بالدولة والتخلي عن أوهام دينية أو أحلام معيشية سريالية..
المشكلة عدم وجود مؤسسات أو قوى شعبية عربية تستطيع التعامل مع هذه المتغيرات الإستراتيجية وتستثمرها إيجابيا لصالح حرية فلسطين بما في ذلك التواصل والتفاعل المثمر مع كل تلك النخب والفعاليات والأصوات اليهودية التي تخلت عن صهيونيتها بعد أن أدركت كذبها وادعاءاتها الباطلة.. نطالب بتنشيط دور مؤسسة الدراسات الفلسطينية لتكون نواة مؤسسة عربية شاملة تغطي الحاجة إلى مثل هذا التفاعل الجدي المثمر..