
ثمة إنجازات كبيرة للحكومة السورية الحالية وثمة وعود وأحلام باجتياز المرحلة الخطرة وإعادة إرساء أسس الدولة بعد أن دمر النظام البائد كل إمكاناتها وتركها أطلالاً قبل هروب رأسه، وما يزال هناك عمل كبير أمام الحكومة وعلى كل المستويات، غير أن العبء الكبير الملقى على كاهل الحكومة اليوم لا يبرر أخطاء التفاصيل الصغيرة سواء تلك المتعلقة بقوت يوم المواطن أو بالقضايا الإجرائية والقانونية في معاملاته المرتبطة أيضاً بتفاصيل حياته اليومية.
فضلاً عن ذلك، فلدى السوريين أحلام كبيرة وكثيرة تمت سرقتها على أيدي أجهزة أمن النظام البائد وهم يجدون اليوم فرصة تاريخية لإعادة ترتيب أحلامهم وتنفيذها بعد زوال العائق وبعيداً عن اليد الخانقة التي كانت تتوعدهم وتتهددهم وتعرقل خطواتهم وتغتال أحلامهم.
ويبدو أننا بحاجة ماسة اليوم إلى حكومة طوارئ أو حكومة تصريف الأحلام، حكومة تتعهد بإيجاد آلية تساعد على نقل الحلم إلى واقع عملي حتى على مستوى التفاصيل الصغيرة، وهذه لها دور كبير في بناء الدولة، حكومة يمكن أن نطلق عليها اصطلاحاً “حكومة التفاصيل” لتسهيل ما أعاق النظام الراحل تنفيذه.
من ضمن القضايا الكثيرة والمتعددة التي تعرقل حركة المواطن وتحد من تدفقها، يمكن الوقوف على قضية الموظفين العائدين إلى سوريا، وتحديداً أولئك الذين انشقوا عن النظام البائد من الموظفين الذين تركوا وظائفهم وغادروا البلاد هرباً من الأسد وأجهزته الأمنية..
ثمة تحولات إيجابية لا يمكن نكرانها أو العبور عليها عند تقييم الوضع الحالي وما آلت إليه البلد في الأشهر السبعة التي تلت سقوط نظام الأسد، غير أن هناك أيضاً ما يدعو للتوقف عنده من أخطاء في الممارسة العملية لنظرية بناء الدولة فضلاً عن الالتباسات والغموض الذي يرافق تلك الأخطاء وتعود بشكل أساسي إلى ضعف الخبرة وغياب التصور الكامل فيما يتعلق بالتعامل مع التفاصيل.
وبما أن الشيطان يكمن في التفاصيل، لا بد من مساعدة مؤسسات الدولة في مقارعة ذلك الشيطان قبل أن يكبر ويتمدد وينتقل بالعدوى إلى الجسد برمته ليتحول إلى سرطان يصعب استئصاله أو علاجه.
من ضمن القضايا الكثيرة والمتعددة التي تعرقل حركة المواطن وتحد من تدفقها، يمكن الوقوف على قضية الموظفين العائدين إلى سوريا، وتحديداً أولئك الذين انشقوا عن النظام البائد من الموظفين الذين تركوا وظائفهم وغادروا البلاد هرباً من الأسد وأجهزته الأمنية، وهؤلاء يعانون لدى عودتهم معاناة شديدة القسوة والغرابة في آن معاً، لأنهم يواجهون وضعاً قانونياً يلزمهم بإصلاح ما تسبب به نظام الأسد من أضرار في وضعهم الوظيفي والذي كان على الدولة الجديدة أن تأخذ على عاتقها مهمة إصلاحه بدل من تحميله للمواطن.
لقد سقطت كل الأحكام الأمنية والتهم السياسية ضد الموظفين المنشقين وتمت إزالتها بشكل بشكل نهائي من قبل الحكومة الجديدة وهذا أمر بدهي، غير أن بعض المعيقات التي تقيد حركة العائدين والتي فرضها النظام السابق ما تزال سارية المفعول بذات شروط النظام الذي وضعها.
أكبر تلك العوائق التي تعرقل حياة الموظفين السابقين العائدين إلى سوريا اليوم تتمثل بقرارات منع السفر، التي يواجهها كثيرون بعد دخولهم المرحب به لبلدهم، ولكن دخول سوريا ليس مثل الخروج منها إن كنت موظفاً سابقاً حيث يترتب عليك البدء بمعاملة براءة الذمة الوظيفية/ المالية ولن تتمكن من مغادرة البلاد ما لم تحصل على تلك الوثيقة.
قانونياً يبدو الأمر منطقياً وفي سياقه الطبيعي، فثمة كثيرون ممن تركوا وظائفهم وغادروا وكان عليهم ذمم مالية تتبع للدولة وليس للنظام، وهذه الذمم يجب تسديدها بلا شك لأنها حق للدولة وهذا الحق لا يموت بالتقادم، ولكن بعض تلك الذمم التي يتم تحميلها للموظف المنشق لم تكن بمنأى عن البعد السياسي، حيث عمل مديرو المؤسسات على تحميل المنشقين كثيراً من السرقات التي ارتكبها موظفون كانوا يعملون مع النظام.
ثمة كثير من الوقائع في مؤسسات الدولة المختلفة التي يمكن أن تعد شاهداً على تلك الأخطاء التي يمكن اعتبارها إساءات مباشرة لمن دعموا الثورة ثم عادوا ليواجهوا المصاعب والعراقيل في وضعهم الوظيفي نتيجة لدعمهم للثورة من قبل الحكومة ذاتها التي قادت عملية التحرير وأعلنت انتصار الثورة، فالأحكام القضائية التي أصدرها نظام الأسد بحقهم ما تزال سارية المفعول بالنسبة لأولئك الموظفين، وهي بالتحديد ما تم اعتماد تسميته بـ”جريمة ترك العمل”.
ورغم أن ترك العمل حينها كان واجباً وطنياً فقد استمر اعتماده كجريمة حتى الآن، وبات على أولئك الموظفين العائدين إثبات براءتهم من خلال عملية معقدة تبدأ من الدوائر المتعددة للمؤسسة التي كان يعمل بها الموظف فيما يعرف بالحصول على براءة الذمة المالية وتصل إلى القضاء لاستخلاص حكم براءة مع كل ما تستنزفه تلك المتابعة القانونية من الجهد والوقت والمال للخلاص من جرم لم يرتكبه الموظف، بل تم توصيفه من قبل نظام الأسد كجرم وبقي توصيفه كذلك في العهد الجديد.
مئات آلاف الأضابير موجودة في المستودعات الورقية والمؤتمتة للمؤسسات العامة والتي تمت عنونتها بقضايا الدولة لموظفين منشقين تم تصنيفهم تحت عنوان “بحكم المستقيل”، وكان على تلك المؤسسات وبالحد الأدنى أن تعالج هذا الملف مباشرة بإزالة موضوع الدعاوى تلقائياً وليس من خلال تكليف الموظف المنشق بإجراء معاملته بنفسه، أو على الأقل إعطاء مدة زمنية كافية لهم من دون أن تلجأ إلى تكبيل حركتهم، ومنعهم من السفر ولا سيما بالنسبة لأولئك العائدين من أوروبا وغيرها ممن أرادوا زيارة بلدهم المحرر قبل عودتهم النهائية إليه ولم يتخيلوا أن بعض القرارات المتخذة ضدهم من قبل نظام الأسد ما تزال سارية المفعول.
ورغم الفرحة العارمة التي يعيشها أولئك السوريون العائدون إلى بلدهم من المعارضين الذين كانوا مطلوبين لنظام الأسد وأجهزته الأمنية، والذين قضوا سنوات طويلة في منافيهم الإجبارية، إلا أن تلك العوائق خيبت أملهم ودفعت بكثيرين منهم لاتخاذ قرار المغادرة من جديد بعد الحصول على براءات الذمة وتسوية وضعهم وفق قانون الأسد الذي جرّمهم من دون أن يرتكبوا أية جريمة، وربما كان منشأ تلك الصدمة ليس الوضع الشخصي بل الإحساس الذي تخلقه حالة الاعتراف بتقييمات نظام الأسد والاستمرار على ذات طريقته في حل المشكلة قانونياً.
فغياب أو استمرار غياب أي سوري عن بلده ممن يريدون أن يسهموا في ترميم بلدهم وإعادة إعماره على كل المستويات يعتبر أكبر خسارة تتعرض لها المرحلة الجديدة، وعلى الحكومة الحالية أن تكون حكومة تصريف الأحلام وليس إعاقتها مهما كانت الأسباب..
إن من حق الموظفين الذين انشقوا عن نظام الأسد وبالحد الأدنى ألا يتم فرض قيود على حركتهم، ولن نبالغ إن طرحنا فكرة تكريمهم معنوياً على الأقل، لقد فاقت لهفة هؤلاء للعودة إلى بلدهم لهفة العشاق للقاء، وأكثرهم كانوا يريدونها عودة نهائية بمن فيهم حملة الجنسيات الأوروبية الذين حملهم حماسهم وشوقهم للتخلي عن رفاهية الخدمات التي يتمتعون بها في بلدان أوروبا وتقبلوا مصاعب الحياة المتعددة في سوريا وعادوا حاملين حلمهم معهم للمشاركة في بناء بلدهم، ولدى وصولهم إلى المعابر والمطارات استُقبلوا أفضل استقبال بصفتهم سوريين، وكانت فرحتهم غامرة بالتغيير الجذري في التعامل، ولكنهم بعد ذلك أرهقوا بالقيود المفروضة على حركتهم وتحديداً فيما يتعلق بحرية السفر وبدأ رصيد أحلامهم بالتراجع.
وخوفاً على هذا الرصيد من التآكل، لا بد من إعادة النظر في كل القوانين التي كان معمولاً بها في أثناء حكم الأسد ولا سيما تلك التي تؤثر على حماسة السوريين باتخاذ قرارات العودة النهائية، لأنّ الخيارات ما تزال مفتوحة أمامهم للعودة ثانية إلى منافيهم التي استطاعوا أن يؤسّسوا فيها حياتهم الجديدة والتي يمكن اعتبارها أفضل من الحياة في بلدهم الأم من حيث الخدمات وظروف العيش، فغياب أو استمرار غياب أي سوري عن بلده ممن يريدون أن يسهموا في ترميم بلدهم وإعادة إعماره على كل المستويات يعتبر أكبر خسارة تتعرض لها المرحلة الجديدة، وعلى الحكومة الحالية أن تكون حكومة تصريف الأحلام وليس إعاقتها مهما كانت الأسباب، عليها أن تبادر لصياغة قوانين جديدة، أو بالحد الأدنى إجراءات جديدة يتم اعتمادها ليس فقط لتسهيل معاملات المواطنين بل لتعزيز انتمائهم الوطني وثقتهم بالحكومة الجديدة، ولا بد أن يكون مفهوم الانتماء هو العنوان الرئيسي للمرحلة الحالية.
لا يكفي إسقاط الأسد، بل يجب إسقاط تبعات نظامه بما فيها تلك المغلّفة بغطاء قانوني، لأنّ الاستمرار بالاعتماد على مخلفات الأسد القانونية يعطي تلك القوانين الأسدية نوعاً من الشرعية وهذا ما يجب أن يكون مرفوضاً بالمطلق.
المصدر: تلفزيون سوريا