
تداعيات الحرب بين إسرائيل وإيران أدخلت النقاش في دوامة أبواب، وفي “متاهة” مسالك. فجأة اندلعت المسائل المحجوبة، وتدفقت المسائل المرجأة، وتزعزعت المسلّمات التي تراجعت إلى ما دون القول بزمن صياغتها، واستبعدت إلى خارج ما كان لها من أوقات.
من أين ندخل في الحرب؟ سؤال كان في صيغة البحث عن خيار انتماء للشاعر اللبناني حسن عبد الله، والسؤال هنا هدفه البحث عن نقطة ارتكاز للسائل، ليتفكّر في صياغة انحيازه وتبريره. الانحياز هو الجواب الفردي، وتعليل الانحياز هو مادة تقديم الفردي إلى جمهور الانحياز الجمعي بما هو اختيار بين أشكال من الانحياز الأخلاقي أو السياسي أو القومي…، الذي يبدو في الحالة الراهنة، واثقاً من قدرته على الانحياز.
غزة نقطة انطلاق الصدام
نقطة انفجار الصدام بدأت من غزّة. الدخول من البوابة الفلسطينية يطلُّ على خطأ حسابات موضعية للمقاتل الفلسطيني، ويطلُّ على حسابات دقيقة للمحتل الإسرائيلي.
الموضعية الفلسطينية لها أساسها التاريخي الذي هو من قتل واقتلاع ونفي هويّة، ودقّة المحتل لها أساسها الطارئ في التاريخ، الذي هو من اغتصاب أرض وطرد شعب وتثبيت حكاية خرافية عن شعب تائه في التاريخ، عاد ليجد أرضه الموعودة بفضل نبيّ استعماري بريطاني، وبدعم عدد من أنبياء الغرب “النبيل”، الذي قادته “أخلاقياته” الإنسانية الجديدة.
لم يكن متوقعاً ما حققه الفلسطيني من نجاح، ولم يكن متوقعاً ما أقدم عليه العدو من استباحة، أُدين الأول بالإرهاب، وما زال، ودُعِمَ الثاني لأنه في معرض دفاعه عن نفسه.
هذا الباب الذي أُشرِع من غزّة، فتح باب سؤال دائم: متى ترفع تهمة الإرهاب عن الشعب الفلسطيني الذي أبيدَ في غزّة؟ وما هي الحدود الأخيرة لمقولة الدفاع عن النفس؟ وما الثمن الكافي من القتلى، حتى تعود السكينة إلى قلب الإسرائيلي المدافع عن نفسه؟
الغرب سمح للإسرائيلي باجتياز كل الحدود، وسمح لآلته الحربية باقتلاع كل الأبواب. تمدّدَ الدفاع عن النفس، فدمَّر العمران اللبناني، وعبث بالأقدار وبالأعمار… وما زالت شهية “البطل اليهودي” مفتوحة على مائدة القتل اليومية.
من يحدّد معايير تهديد الوجود؟
خلاصة اليوميّات، شهدت تدحرج كرة ثلج “الدفاع” حتى صارت مقولة خطرٍ وجودي. في سياق الوجود اعتمد الإسرائيلي سياسة إبادة كل وجود يهدّد هذا الوجود!! يقود ذلك إلى الدخول من باب الأسئلة ذات الأجوبة المعروفة، ما كان منها واضحاً وما كان مموّهاً ومضلّلاً. على سبيل التعداد، يتقدم سؤال: من يحدّد معايير تهديد الوجود؟ ومن يحدّد الوسائل اللازمة لإزالة هذا التهديد؟ وهل يعادل الوجود العربي برمّته، الوجود الإسرائيلي، قيميّأً وأخلاقياً ونورانيّأً وأسبقية في “الألوهية”؟ الأجوبة الجاهزة، تحمل موافقة عمياء على كل تعريف “يهودي”، وتجهّز حملة شعواء، على كل ما ينغص صفاء أهل التعريف. الصورة الجليّة ليست أقل من إسقاط صفة الإنسانية عن معادي “السامية”، وهي أكثر من سماح بالرد وبالهجوم. لأبناء “شعب الرأسمالية” المختار، وأكثر من إغداق وسائل القتل الأكثر تطوراً على الذين ورثوا أسطورة “مقلاع داوود”.
من أعطى الحق لترامب بتهديد إيران؟
فتح الباب أمام تصفية الحسابات، دقّت الباب الإيراني، وها هي التصفية تتجدد بقنابلها وبصواريخها، حتى تعيد رسم الجغرافيا الإيرانية بتضاريسها الأرضية، وبخطوط سياساتها التي يراد لها أن تكون أكثر مباشرة وأكثر استقامة.
أين نضع الحرب المفتوحة، في فلسطين وفي إيران؟ مكان هذه الحرب الصحيح، هو في دائرة القرار الغربي، حيث يحتل البنتاغون الأميركي قلب الدائرة، وحيث يتوزع باقي الغرب النقاط على محيط الدائرة.
إذن، الآن وبجلاء، كان صحيحاً ما سُقناه ذات يوم كلاماً، عن أن الحرب الحالية هي هجوم استعماري أميركي جديد، وما كان كلاماً، اكتسى “لحماً” واقعيّاً عندما دخل إلى الميدان الإيراني، لينتقل معه النقاش إلى ملامسة إعادة تعريف الصدام المندلع، وإلى إعادة صياغة العناوين التي قادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ورسمت خطوط التماس بين الدول والشعوب، بشيء من التوافق العام، وبشيء من “العدالة” النسبية. الإنجاز الأممي المشار إليه ذهب مع الريح، وها هي عاصفة الحرب في الشرق المنكوب بالاستعمار، تطيح بذكرى حقوق الإنسان، وبذكريات القرية الكونية، وبأوهام وعودها.
في السياق، من أعطى الحق لدونالد ترامب بتهديد إيران؟ وكيف يُسمح عالمياً لبنيامين نتنياهو بتهديد قائد دولة مستقلة بالقتل؟ ولماذا يكون النووي آمناً في يد العدو الإسرائيلي الذي اجتاح الأمان العربي طيلة حقبات، ولا يكون النووي آمناً في يد إيران؟ ولماذا لا يؤخذ نفي إيران سعيها نحو امتلاك السلاح النووي على محمل الصدق، ويؤخذ كذب وادعاء الأميركي والإسرائيلي على محمل التسليم بشفافيته؟ وماذا لو ظهر بعد تخريب إيران “خطأ” معلومات الأميركي، مثلما ظهر خطأ معلوماته بعد تخريب العراق؟ من يحاسب جورج بوش البائد عن فعلته؟ هل يكفي اعتذار وزير خارجيته كولن باول؟ وماذا سينفع اعتذار ترامب، ووزير خارجيته، ومن يحاسب هذا وذاك؟ هذه الأسئلة، تُساق على سبيل “الحُجّة” وليس على سبيل تحقيق عدالة أمميّة، كانت عوراء فصارت عمياء، وهي تساق لإعادة التأكيد على جملة من الثوابت منها: إن الحقّ كان وما زال للقوة العمياء، ومنها إن الأمم الضعيفة تظل مادة معروضة في سوق البيع والشراء، ومنها إن التاريخ الشعبي لكل أمّة حيّة، لا يُقفل بابه على إذلال تاريخي نهائي.
باب الإذلال موصد تاريخياً، لأن فتحه الآني يفتح معه، تلقائياً، باباً آخر هو باب التحرّر من هذا الإذلال، على هذا الوجه يصير الرفض صرخة المعاندة الأولى، وتصير المقاومة اللاحقة واسطة من وسائط كسر قيود كل عدوان. هنا تكون الشجاعة أخلاقاً، وربما تكون الشجاعة فضيلة تتقدم على الفضائل، وربما جاز القول، إن الشجاعة هي النداء المستقبلي الذي يستنبت ويروي كل نداء.
ماذا عن لبنان؟
وبعد، ماذا عن الموقف في البلد الخاص، أي في لبنان، ما دامت اللبنانية تعريفاً دائماً لأبنائها؟تتقدم مسألة حصانة الوضع الداخلي على ما عداها، وهذه لها شروطها السياسية التي تتطلب الاستجابة السياسية غير المشروطة من كل الأطياف الأهلية. حتى الآن، لم تُبدِ هذه الأطياف حكمة كافية في الانتباه إلى ضرورة “إخفاء الرأس عند تبدّل الدول”، وعلى العكس من ذلك، يبدو أن “مدّ الرأس” يغريها، طمعاً بربح فئوي، هو خسارة وطنية عامة، أو طلباً لغلبة داخلية فشل طالبوها على امتداد عمر السيرة اللبنانية.
الحكمة الراهنة عنوانها تحييد لبنان عن الصراع المفتوح الذي قد يفضي إلى تغيير جغرافيا شعوب وتغيير جغرافيا أوطان. لغة التحييد تبدأ من توقّف لغة التحريض والشتيمة، ومن توقف لغة الحماسة، ومن وقف استعادة نصوص كاملة من قاموس الحرب الأهلية. من يقود التحييد اللبناني؟ المرجعية الرسمية اللبنانية هي من يتولى دفّة القيادة. من رئاسة الجمهورية إلى كافة المؤسسات. من المعني “بالانقياد” إلى الدولة؟ كل الأطراف، وفي طليعتها الشيعية السياسية التي يجب أن يعلن ممثلوها انخراطهم الكامل في مسيرة الدولة، مع الاستجابة إلى كل ما يستدعيه هذا الانخراط. يترتب على ذلك، تنفيذ مضامين الخطب الرئاسية، الجمهورية والوزارية، واستنهاض التسوية الداخلية، وإطلاق ورشة إعادة الإعمار ورفع درجة الاستعداد لدى الأجهزة الأمنية، والتنسيق العالي مع القوات الدولية، وإطلاق حملة علاقات خارجية للحصول على أقصى ما يمكن من دعائم سياسة التحييد الرسمية.
هذا للراهن الحالي الصعب، الذي يستوجب كل الدراية والحذر، أما المستقبل الإقليمي الذي يبدو، حتى تاريخه، شديد التعقيد فله حديث تطورات تنتج وقائع جديدة. هذا الحديث لا يستبعد أي نقاش جاد، في وسائل حماية الأوطان، وفي كيفية إدارتها، ذلك، وكما سلف، أنه لا مكان للضعفاء في فضاء تجتاحه طائرات الموت وقاذفات اليباب.
قد ينجو لبنان؟ هذا رهن بإرادة بنيه، وقد لا ينجو، في غياب هذه الإرادة، وهذا مما يسرُّ “التوراتية” العطشى إلى مياه لبنان، وإلى دماء أبنائه.
المصدر: المدن