
يبدو العالم الذى عرفناه، تغير فى سرعة فائقة، مع ثورة الاستهلاك المكثف ، والنيوليبرالية الكونية، فلم تعد الحداثة وما بعد بعدها هى سمت التنظيرات، والمفاهيم، والاصطلاحات، والتحليلات فى كل ميادين العلوم الاجتماعية، والأدب، والفلسفة…الخ! التي نستمد منها بعض مقاربات وأدوات تحليل كل مايجري حولنا من ظواهر جديدة !
لم تُعد العولمة، ومكدونالد العالم، هى سمت رمزى للإمبراطورية الأمريكية على الرغم من صدمات الخطاب السياسى المثير فى لغته، ومفرداته لدى الرئيس الأمريكى ترامب، أو تغريداته الوجيزة الصاخبة، والمحمولة على عقلية الصفقات، وأيضا لغته التهديدية حينا، وتقديم ذاته كإمبراطور للصفقات فى مقابل السلام، وحينا آخر يبدو، وكأنه وأمريكا مركز الكون كله ، وليس العالم، وفوق نظامه الدولى الذى لم يعد صالحا منذ نهاية الحرب الباردة.
أن شخصية ترامب المثيرة، والغرائبية، وسلوكه الصفقاتى، بل وتاريخه الشخصى، وسلوكه، ونمط علاقاته النسائية السابقة تضفي بعض من الغموض علي سلوكه السياسي ، وذلك بعد انخراطه فى العمل السياسى فى إطار الحزب الجمهورى، كلها مؤشرات علي أننا أمام نمط من السياسيين غير مألوف عند القمة فى البيت الأبيض مابعد الحرب الباردة ، مقارنة ببناة الولايات المتحدة، وتاريخها، وأيضا قبل وبعد الحرب العالمية الثانية.
ظاهرة القادة السياسيين فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ما بعد الحرب الباردة، يختلفون عن غيرهم من قادة الحرب الأولي والثانية ومابعدهما ، وأثناء الحرب الباردة، من حيث الخبرات السياسية، والتكوين والرؤى السياسية، والنظرة إلي الليبرالية ، ورؤي العالم ،وذلك سواء فى إدارتهم للسياسات الداخلية، والمنافسات السياسية داخل الحياة الحزبية، بل وفى داخل أحزابهم وصراعاتها الداخلية.
خلال الحرب الباردة فى ظل الإمبراطورية الماركسية اللينية –والستالينية والماوية -، كان العالم يخضع لصراعات إيديولوجية ضارية، وصاخبة من الأجهزة الإيديولوجية والرمزية لدول كلا الكتلتين إزاء بعضهما بعضا، وأيضا على صعيد دول العالم الثالث آنذاك. هذا النمط من الصراعات الإيديولوجية كان يشكل مركز الخطابات السياسية لقادة كلا الكتلتين السوفيتية والصين، وأيضا الليبرالية الرأسمالية.
كان وهج الماركسية الفلسفى والأيديولوجى مسيطراً، ومؤثراً فى دوائر العلوم الاجتماعية فى القانون؛ ونظرياته وفلسفاته، وأثرت الماركسية على الفكر الفلسفي الوجودى الفرنسى، وأيضا من بعض النظريات الأدبية السوفيتية كالشكلانيين الروس علي التنظيرات في بعض المدارس النقدية الأوروبية.
لا شك أن بعض التأثيرات الماركسية كانت واضحة على بعض من تطور فلسفة جان بول سارتر، وآخرين، وايضاً بعض تأثيرات الأفكار الفلسفية للأممية الرابعة . ثمة أيضا تأثيرات المدرسة الماركسية الإيطالية، وهو ما انعكس على بعض مثقفى العالم الثالث، والعربى آنذاك . كان الفكر الماركسي ملهمًا ومؤثرا على بعض الفكر الفلسفى الأوروبى، وعلى هيمنة الفلسفة الهيجلية والوجودية، وخاصة فى ظل صعود مسرح العبث مع صامويل بكيت، ويوجين يونسكو، وجان جينيه، وأرثرأدموف وحالة الشعور بالضياع ، والعبثية ،والقلق، والعزلة، واليأس، وغياب المعنى علي نحو ماظهر في مسرح العبث Theatre de L’absurd، وحالة الفوضى، واللا معنى فى الحياة.
من ناحية أخرى، كانت الليبرالية الغربية الأمريكية والأوروبية، تحاول أن توظف قيمها السياسية حول الحرية، والمساواة، والتنافس، والإخاء الإنسانى والعمل، والرفاه، والاستهلاك فى مواجهة الإيديولوجيا الماركسية، وديكتاتورية البروليتاريا، والعدالة الاجتماعية، وأيضا إيديولوجيات الدول ما بعد الكولونيالية الأوروبية، التى دارت حول شعارات الاشتراكية، والاستقلال الوطنى، والتى لا تعدو أن تكون أنماط من رأسماليات الدولة البيروقراطية والوطنية، وأيضا تجاه النظم السلطوية، والاستبدادية التى اتخذت الطريق اللارأسمالى للتنمية.
فى ظل أتون الصراع الإيديولوجى الثنائى أساسا بين الماركسية، والليبرالية الغربية، حدثت بعض التغيرات فى الفلسفة، والنظر السياسى والقانونى، والسوسيولوجى الغربى من خلال ديناميات نظرية ومفاهيمية وإصطلاحية ومنهجية بعضها مهجن وبعضها مضاد ، وساعد علي ذلك حريات الرأى والتعبير، والبحث الأكاديمى من خلال الصحف والإذاعة المسموعة، والتلفازات والفنون والسينما والمسرح، على نحو خلق حركية فكرية انعكست على الحياة السياسية الليبرالية، وعلى الأحزاب السياسية، ومنظريها بما فيها الأحزاب الشيوعية فى فرنسا، وإيطاليا على سبيل المثال، وبروز بعض من التمايزات بين فكرها وإيديولوجيتها الماركسية عن الحزب الشيوعى السوفيتى، والأحزاب الأخرى فى أوروبا الشرقية، ومرجع ذلك تأثر هذه الأحزاب ومنظريها بما كان يجرى فى الفكر والفلسفة الأوروبية.
لا شك أن الصراعات الإيديولوجية الماركسية والليبرالية ومعها انعكاساتها الفلسفية والقانونية والسوسيولوجية والأدبية والفنية، شكلت بيئة مؤثرة على أفكار السياسيين، وأحزابهم السياسية وبرامجها وخطاباتها ، فى ظل المنافسات الحزبية، وفى البرلمانات، والصحف، والتلفازات والإذاعات، وفى الأوساط الأكاديمية.
من هنا كان تكوين السياسى الأوروبى، والغربى نتاج لهذه البيئة الخصبة داخل المجتمع والجامعات وأيضا، من خلال مراكز البحث المستقلة فى الدراسات الاجتماعية والسياسية والعسكرية، ونظائرها فى أجهزة الدولة على اختلافها.
شكلت مراكز البحث المستقلة على تعدد اختصاصاتها، وأدوارها دورًا بالغ الأهمية، فى عملية صناعة القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية…الخ، الداخلية، وأيضا على مستوى السياسات الخارجية.
من الشيق ملاحظة الاهتمام المحورى بالدراسات السوفيتية، وأوروبا الشرقية، ودول العالم الثالث . ساهمت دراسات مراكز البحث، وتقديرات المواقف فى دعم خبرات القادة ما بعد الحرب الثانية، والحرب الباردة.
كان القناع الإيديولوجى للولايات المتحدة وقادتها يرتكز على دفاع العقل السياسي عن منظومات حقوق الإنسان، والحريات العامة والشخصية، والرأسمالية واقتصاد الرفاهة، وتحول القناع الإيديولوجى الليبرالى إلى قناع أخلاقى وقيمى فى مواجهة الماركسية، والحزب الواحد/ الشيوعى، وديكتاتورية، وهرمية القيادة االمتسلطة عند قمة الحزب والنظام والدولة.
كان النقد الإيديولوجى للزعامات الأوروأمريكية للاتحاد السوفيتي وكتلته الشيوعية تدور حول تشريح النظام الشيوعى من منظور القيم السياسية الغربية، ومستويات المعيشة، وديكتاتورية البرولتياريا، والطبقة القيادية للأحزاب الحاكمة باسم الطبقة العاملة، بقطع النظر عن مدى صوابية هذا النقد الإيديولوجى والأخلاقى للماركسية السوفيتية، والماركسية الماوية .
كان النقد الماركسى المضاد يدور حول تشريح الرأسمالية، والصراعات الطبقية فى المجتمعات الأوروبية، والولايات المتحدة واللامساواة والاستغلال ، وشكلية الحقوق والحريات العامة والشخصية ، والطابع الإمبريالى لها .. الخ !
فى ظل هذه البيئة الدينامية فى الفكر السياسى والفلسفى والاجتماعى، والقانونى، كان مستوى تكوين قادة الحكومات ، والأحزاب السياسية، تتسم برهافة الفكر واللغة السياسية، والخيال السياسى الخلاق –منذ ثورة الطلاب فى جامعتى كاليفورنيا بيركلي ، والسوربون ١٩٦٨، وسيطرة ثورة الاستهلاك المفرط، وهيمنة الشركات الرأسمالية الكبرى، وخاصة متعددة الجنسيات، أدت التطورات الرأسمالية والسياسية إلى بعض من التحولات السياسية في الفكر الغربي والعالم ثالثي / جنوب العالم ، وخاصة بعد سقوط حائط برلين، وانهيار الإمبراطورية السوفيتية، ونهاية الحرب، تحولت الرأسمالية إلى المرحلة النيوليبرالية الجديدة والوحشية مع التقدم التقنى والعلمى فائق السرعة.
شكلت المصارف الكونية الكبرى، ومعها الشركات الرأسمالية الضخمة المحرك الرئيس لعولمة الأسواق الكونية وهو ما أثر علي العقل السياسي للقادة السياسيين . جاء بعض القادة السياسيين الأوروبيين، والأمريكيين من أوساط المصارف الكبرى، والشركات الرأسمالية النيوليبرالية، واستطاعت هذه المصارف والشركات أن تفرض سياساتها ومصالحها على الطبقات السياسية الأوروبية والأمريكية فى الأحزاب السياسية، والحكومات.
تحول بعض الزعماء السياسيين إلى لعب دور المروج لهذه الشركات، وإلى ترتيب الصفقات الكبرى لها مع الدول الأخرى –لاسيما في جنوب العالم، ومن ثم تراجعت نسبيا العقلية السياسية لصالح عقلية الصفقات الاقتصادية، والعسكرية…الخ.
من هنا أصبحت عقلية الصفقات والترويج لها هى المهيمنة على عقلية غالب القادة السياسيين فى هذه البلدان، وعلى رأسهم ترامب.
مع التحولات الكبرى مع الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى وشركاتها الكونية الضخمة استخدم ترامب وغيره وسائل التواصل الاجتماعى وخطاب التغريدات الوجيزة فى التعبير عن آراءهم، وعلى رأسهم ترامب، وتغريداته، وأحاديثه وتصريحاته وخطاباته السياسية، المثيرة، وبعض من طابعها الغرائبى، والحاملة لمنطقة التجارى الذى يعتمد على الصفقات التجارية والسياسية وعلامة بارزة علي العقل الصفقاتى، ومنطق الغرابة والإثارة المتأثر والمؤثر بعقلية الجموع الرقمية الغفيرة . تراجع العقل السياسى لصالح العقل الصفقاتى، والنزوع إلى الشعبوية السياسية، والأفتخار بالقوة الفائقة، وتجاوز بعض حدود التوازن، والتمايز بين السلطات فى النظام الديمقراطى الغربى وسلطاته ومؤسساته علي نحو مايقوم به ترامب ، وبعض مما يحدث في فرنسا !
مع نهاية الحرب الباردة، تراجع خطاب حقوق الإنسان والوجه الأخلاقى الليبرالى الإيديولوجى الذى استخدم كأداة فى مواجهة الماركسية السوفيتية، ودول العالم الثالث، والجنوب ، وخطاب التنمية المستقلة والاستقلال الوطني والسيادة ، وباتت القوة المفرطة الأمريكية والغربية بلا وجه أخلاقى، واللامبالاة بالقانون الدولى العام، والقانون الدولي الإنساني وقانون الحرب ، ومن ثم التنظيم الدولى ومؤسساته موضوعا للأنتهاكات من الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الأوروبية، على نحو ما يظهر من مظاهر لغطرسة القوة الأمريكية فى الأمم المتحدة، والدعم المفرط لإسرائيل ، وحربها الإبادية فى غزة، وأيضا فى العدوان الإسرائيلى على إيران، من خلال الدعم العسكرى والسياسى والاستخباراتى.
بات الوجه الأخلاقى لليبرالية الغربية ، وحقوق الإنسان غائبا لصالح وجه القوة المفرطة الغاشمة وعقل الصفقات فى خطاب أمريكا والغرب الأوروبى إزاء العالم، فى مرحلة انتقالية من عالم الإناسة الروبوتية إلى عالم آخر مختلف، تشكل المرحلة الراهنة، عمليات انتقال إلى مرحلة أخرى لا يصلح معها نمط القادة السياسيين الحاليين، ومعهم عقل الصفقات، فى الحضور فى عالم مختلف فائق السرعة والتغير والتحول .
المصدر: الأهرام