
يقفز ترامب بعد الليلة الأولى من الغارات الإسرائيلية على إيران، لينسب لنفسه الفضل في الهجمات التي كان يعارضها علناً، قبلها بيوم واحد. ثمة ما يبرر اتهام الولايات المتحدة بالمشاركة في تضليل طهران، عبر شغلها بالمفاوضات والترويج لخلاف بين البيت الأبيض ونتنياهو، بينما التجهيزات تتم على قدم وساق للعمل العسكري. لكن الحقيقة أيضاً، هي أن واشنطن أعلنت عن سحب أسر دبلوماسييها وموظفيها من السفارات الأميركية في المنطقة. وكانت تلك إشارة واضحة، إلا أن الإيرانيين أفرطوا في تأويلها، وبدلاً من فهمها على وجها المباشر والتحوط بناء على ذلك، فسروها باعتبارها خدعة، غرضها الضغط عليهم في جولة مقبلة من المفاوضات النووية.
البريطانيون الذين لم تعلمهم تل أبيب بالهجمات مسبقاً، كونهم “شريك غير موثوق به”، يبادرون بلا دعوة إلى الإعلان عن استعدادهم للدفاع عن إسرائيل. وفي خضم الحماسة البريطانية، تتناسى لندن أنها فرضت عقوبات على وزيرين في الحكومة الإسرائيلية قبل أيام قليلة. وبالمثل، تؤجل فرنسا المؤتمر الدولي لحل الدولتين، وتؤكد هي الأخرى عن جاهزيتها للتصدي وحماية الدولة اليهودية.
تُنسى غزة، ويتواصل التجويع والمذابح بوتيرة أسرع، وفي الخلفية يتابع العالم حفلات الألعاب النارية القاتلة في سماوات المنطقة. بصوت موحد، تكرر مجموعة السبع تعويذة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. أما الرئيس الأميركي فيرفض بياناً عن المجموعة يدعو الطرفين إلى خفض التصعيد. الأميركيون والأوروبيون يضعون خلافاتهم المتفاقمة جانباً، للتوحد خلف ضرب إيران. ليست الغريزة الاستعمارية القديمة وحدها ما يحرك العواصم الأوروبية، بل حسابات أن كل ضربة لإيران هي ضربة لروسيا في أوكرانيا.
استوعبت تل أبيب جملة دروس منذ السابع من أكتوبر، أولها أنه لم يعد هناك مكان في العقيدة الأمنية الإسرائيلية لاستراتيجيات تبريد الجبهات أو المحافظة على التوازنات الدقيقة. الدرس الثاني والأهم، أن لا حدود لما يمكن أن ترتكبه إسرائيل، بعد أن منحتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون صكاً مفتوحاً للعمل العسكري ضد جيرانها وخصومها القريبين والبعيدين على السواء.
بإيمان مسيحاني، يتصدى نتنياهو لمهمته الإلهية، أي لتحطيم كل أعداء إسرائيل. عملية “الأسد الصاعد” ذات الاسم التوراتي هي الحلقة الأخيرة لتلك المهمة: تضرب إسرائيل والحديد ساخن. خسرت إيران ذراعها الطويلة في لبنان، مع هزيمة حزب الله وتحييد حدود إسرائيل الشمالية خارج الحرب، وقطعت يد إيران في سوريا مع فرار بشار الأسد. وفي جولات القصف المتبادل السابقة بين إسرائيل ولبنان، بدا واضحاً هشاشة طهران الدفاعية. هكذا توفرت الظروف الملائمة للهجوم على إيران، لكن بأي هدف؟
تبدو الأهداف الإسرائيلية ضبابية أوبالأحرى فضفاضة عمداً. تدمير المشروع النووي الإيراني ليس بمقدور إسرائيل وحدها. يمكن للضربات الإسرائيلية أن تعطله أو تؤخر تقدمه، لكن محوه بالكامل يتطلب دخول الولايات المتحدة إلى الحرب. هناك تعويل إسرائيلي على جر ترامب إلى العمل العسكري. تنفي واشنطن نيتها الانخراط في الحرب لكن ليس هناك ما يضمن النوايا الأميركية. لا يتوقف الأمر عند التابوه النووي، إذ يوسع نتنياهو في تصريحاته التلفزيونية من دائرة أهدافه لتشمل ترسانة الصواريخ الباليستية.
ثمة حديث عن إسقاط نظام الملالي أيضاً، ليس على شاكلة العراق لكن ربما وفق النموذج السوري. وهناك أحاديث متكررة عن نية استهداف المرشد الأعلى، أي تصفية النظام بشكل مباشر.
يدرك الجميع أن حشر الإيرانيين في الزاوية قد يدفعهم إلى ردود أفعال عنيفة، تتجاوز إلحاق الأذى بإسرائيل، لتشمل تهديداً لمصادر الطاقة في منطقة الخليج وكذلك الملاحة الدولية. لا يبدو أن هناك نية للوصول إلى تلك الحافة الصفرية حتى الآن. يعرض الأميركيون التوقيع على الاتفاق النووي الذي تم اقتراحه في السابق ورفضته إيران. يصرح المسؤولون الإيرانيون بأن لا مفاوضات تحت القصف، ثم يعودون ليقولوا إن الحرب لا يجب أن توقف الدبلوماسية. ويضيف الإسرائيليون لا وقف لإطلاق النار إلا بشروطهم.
المصدر: المدن