شمشون العصر الحديث

علي أنزولا

العودة إلى الميثولوجيا، ليست من أجل الهروب من واقع معقّد أصبح عصيّاً على التحليل المنطقي، وإنما هي حاجة ضرورية لفهمه، بالغوص في دواخل النفس البشرية التي تصنع أحداثه، وإلا فكيف يمكن تفسير تصرّفات شخص مثل رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، المضطرب نفسياً، والمصاب بجنون الارتياب أو ما يعرف بالبارانويا، ينفث النار والسمّ في كلّ وقت، وفي كل مكان، منذ عدّة سنوات، بل منذ عقود. بالنسبة إلى عالم الميثولوجيا، الأميركي جوزيف كامبل، الذي تُوفّي عام 1987، فإن دراسة أساطير الشعوب هي السبيل، ليس لفهم ماضي التاريخ الإنساني فحسب، بل لمعايشة تجربة الحاضر واستشراف المستقبل كذلك. وعندما سُئل ذات مرّة عن سبب ولعه بالأساطير، أجاب صاحب كتاب “البطل ذو الألف وجه” (1949)، أن الأساطير والحكايات والقصص هي الروح الجمعية للشعوب، تساعدنا في فهم قصصها، والغوص إلى دواخل النفس البشرية. وبالنسبة إلى شخصية نتنياهو، عندما نقارنه بشمشون، فنحن لا نفعل سوى الإحالة على أسطورة من التاريخ التوراتي، هي أسطورة البطل الشعبي لإسرائيل القديمة، الذي منحه الله قوةً خارقةً، حسب ما جاء في سِفْر القضاة، ليُخلِّص الشعب اليهودي من بطش الفلسطينيين.

رفضت إيران علناً (وقطعاً) الاعتراف بإسرائيل، وتدعو إلى تدميرها، ما حوّلها العدوَّ الأول لهذا الكيان المغتصب، لكنّها لن تكون الأخيرة

ليس نتنياهو سوى نسخة رديئة معاصرة من شمشون الأسطوري، لكنّه يملك قوة أكبر بكثير من تلك القوة “الإلهية” التي كانت عند شمشون، وهذه القوة هي ترسانة إسرائيل النووية، التي إنما أوجدتها إسرائيل لتثبيت وجودها في الأرض التي اغتصبتها من أهلها الفلسطينيين، وفرض نفسها قسراً على جيرانها. فعندما فكر أول رئيس وزراء لإسرائيل ديفيد بن غوريون، في امتلاك بلاده سلاحاً نووياً، كان ذلك بهدف رئيس، هو فرض كيانه أمراً واقعاً على العرب، وإرغامهم على الاعتراف بوجوده، واليوم عندما ننظر إلى خريطة المنطقة، نجد أن إيران هي الدولة الوحيدة التي ترفض علناً (وقطعاً) الاعتراف بإسرائيل، وتدعو إلى تدميرها، بل وتعمل على ذلك، وهذا ما حوّلها العدوَّ الأول لهذا الكيان المغتصب، لكنّها لن تكون الأخيرة، ففي قائمة العدوان الإسرائيلي، الذي لا تُحَدّ شراهته، توجد دول أخرى، وقد تكون باكستان هي التالية.
لا أدّعي أن هذه هي المرّة الأولى التي تثار فيها أسطورة شمشون الجبّار لفهم تصرّفات ساسة إسرائيل وقادتها، فما عرف بـنظرية “خيار شمشون”، الذي يقوم على نظرية “عليّ وعلى أعدائي”، استعملت كثيراً لتفسير العقيدة الدفاعية الإسرائيلية، التي لا تستبعد، في حال تعرّضت إسرائيل للخطر، أن تجعل إنهاء وجودها مكلفاً لأعدائها، وانطلاقاً من هذا الخيار، صيغ ما يعرف بـ”بروتوكول هانيبال”، وهو إجراء يستخدمه الجيش الإسرائيلي لمنع أسر جنوده، حتى لو أدّى ذلك إلى قتلهم، عملاً بمقولة “جندي قتيل خير من جندي أسير”. أليست هذه هي روح فلسفة “خيار شمشون”؟
قبل أيّام، حذر الفيلسوف الروسي ألسكندر دوغين، من أن إسرائيل في حال عدم تحقيق ما يصفه نتنياهو بـ”النصر المطلق”، قد تلجأ إلى “خيار شمشون”، أي استخدام السلاح النووي لضرب إيران، حتى لو أدّى ذلك إلى حرب عالمية ثالثة مدمّرة، معتبراً أن هذا الاحتمال، ليس مجرّد تهويل أو ورقة ضغط، بل سيناريو واقعي يتم تداوله ومناقشته بجدّية في بعض الأوساط الإسرائيلية. وليست هذه هي المرّة الأولى التي يتم الحديث فيها عن “خيار شمشون”، ففي عام 1991 أصدر الصحافي الاستقصائي، الأميركي سيمور هيرش، كتاباً تحت عنوان “خيار شمشون: إسرائيل وأميركا والقنبلة” (1991)، حذّر فيه من أن تسقط ما توصف بـ”الدمية المخيفة”، أي الترسانة النووية الإسرائيلية، في أيدي سياسيين إسرائيليين متطرّفين من حزب الليكود، معتبراً أنهم لن يتورّعوا عن استخدامها. وآنذاك لم يكن الصحافي الأميركي يتصوّر أن يصل إلى حكم إسرائيل متطرّفون فاشيّون أمثال بنيامين نتنياهو وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش و يوآف غالانت ويسرائيل كاتس وإيال زامير وهرتسي هاليفي. وفي كتابه يكشف هيرش أن قليلين جدّاً كانوا يعرفون أن المنطقة كانت على شفا كارثة نووية في أربع مناسبات خلال حرب الاستنزاف مع مصر سنة 1969، وأثناء حرب 1973، وإبّان غزو لبنان سنة 1982، عندما هدّد أرييل شارون باستخدام ألغام نووية لمنع السوريين من التدخّل، وفي حرب العراق الأولى سنة 1990. وكلّنا يتذكّر تصريحات وزير التراث في الحكومة الإسرائيلية الحالية، عميحاي إلياهو، عندما دعا نهاية سنة 2023 إلى إلقاء قنبلة نووية على غزّة، لمحوها من على وجه الأرض.

تنياهو ليس سوى نسخة رديئة من شمشون، يملك قوة أكبر بكثير من القوة “الإلهية” لديه، هي ترسانة إسرائيل النووية

من مفارقاتٍ يصعب إيجاد تفسير منطقي لها أن شمشون الميثولوجيا القديم لقي حتفه في غزّة، بعد أن كشفت زوجته لأعدائه سرّ قوته المتمثّل في طول خصل شعر صدغيه، الذي أمرته الآلهة بألا يحلقه، وعندما حلقه خلسةً من زوجته، أقدم على خياره المجنون، وهدم المعبد على نفسه وعلى أعدائه، وكانوا من الفلسطينيين. وفي الثقافات القديمة، كان الشَّعر عند الرجل يرمز إلى القوة والاعتزاز، أي إلى “الأنا” المتضخّمة عند الإنسان. وفي حالة نتنياهو، فإن نقطة ضعفه هي أناه المتضخّمة، وكلّ حروبه العبثية، التي قادها (ويقودها)، وكلّ الجرائم التي يرتكبها، هي من أجل إرضاء تلك الأنا المتضخّمة والمريضة، وإذا ما شعر أنها كُسرت فلن يتردّد في اللجوء إلى خيار شمشون، ليهدم المعبد عليه وعلى أعدائه، وقد يأتي اليوم الذي يصحو فيه ضمير عقلاء الناس ويتساءلون: كيف سمحنا له بفعل ذلك؟ لماذا صمتنا عن جرائمه؟ لقد تكرّر السيناريو نفسه مع هتلر، الذي أدّى تصفيق الألمان لجنون عظمته إلى حرب عالمية مدمّرة، وقبله مع نيرون، الذي يقال إنه أحرق روما لإشباع ساديّته فقط. الشرّ صفة بشرية أصيلة، وبما أنه لا يوجد أيّ إنسان يولد شرّيراً، فإن مَن يصنع الأشرار هو سكوت الأخيار على جرائمهم وتطبيعهم معها. لذلك، وضعت البشرية منذ القدم القوانين لتنظيم مجتمعاتها، وعندما تخترق هذه القوانين، كما تفعل اليوم إسرائيل مستهترةً بكلّ القوانين الدولية، يجب على المجتمع الدولي التدخّل قبل أن تقع الكارثة، وفي هذه الحالة لن تجد البشرية وقتاً للندم، لأن الطريق التي يقود إليه هذا المجنون العالم سوف تودي به إذا لم يحقّق المجنون نصره المطلق المستحيل، إلى الدمار الشامل.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى