التاريخ يُعيد نفسه جزئيًا

سلام الكواكبي

بعد هروب رأس النظام البائد، بشار الأسد، إلى موسكو، بدأ البعض من السوريين والسوريات، خصوصًا منهم أولئك الذين ابتعدوا عن الخوض في المشهد السياسي طوال عقود، بالبحث عن موطئ قدم في مقدمة خشبة المشهد السياسي أو الإداري، وذلك كما جرت عليه العادة تاريخيًا بعد سقوط نظام ما وإحلاله بنظام آخر. وبالفعل، فسرعان ما نشط هؤلاء في مساعيهم بعيدًا عن أي موقفٍ أو فعلٍ جديٍ يتمسك بالمبادئ الأخلاقية والوطنية التي قامت عليها ثورة الشباب السوري في مطلع 2011. لقد تمعّن هؤلاء، ومن في حكمهم من أصحاب المصالح المتنوعة والمتلونة، مليًّا في المشهد السوري طوال 14 عامًا محللين أبعاده ومقدرين مآلاته، سعيًا للاستفادة من ركوده أو تغيراته الجزئية أو الكليّة. ولقد كانوا صامتين أحيانًا ومهللين أحيانًا أخرى لمن لديه الغلبة. ولقد كانت الغلبة في المشهد الدموي السوري طوال هذه الفترة، بتفاوتات مختلفة، هي لنظام البراميل والسلاح الكيماوي ضد شعبه، كما ولأزلامه من كل الطوائف والنحل.

التحوّل من الصمت المريب الذي يُقارب التلبّس، أو من الاشتراك المفضوح مع آليات عمل النظام البائد الأمنية أو الاقتصادية أو الدينية، إلى موقع يتقرّب أصحابه من خلاله من الإدارة الجديدة بعد 8 كانون الثاني الماضي، ليس بالتأكيد حكرًا على السوريين، وإن أبدعوا في تنفيذه وتأمين متطلباته. ففي بلد مثل فرنسا، الذي شهد نظاما خاضعًا للمحتل النازي الألماني إبّان الحرب العالمية الثانية بين عامي 1940 و1944، متمثلاً بحكومة فيشي، وعلى رأسها المارشال فيليب بيتان، أسرع متمجّدوه وأتباعه، وخصوصًا أولئك الذين كانت مواقفهم وأدوارهم ليست شديدة الوضوح والتي كانت أيضًا ليست سهلة الإدانة لغموض تفاصيلها، إلى تقمّص شخوص ثورية تكون من خلالها أقرب ما تكون لشخوص المقاومة الفرنسية التي ناهضت الاحتلال النازي والحكومة الفرنسية المتعاونة معه. وقد جرى استنباط سردية مقاومة لكل فرد منها بحيث تمنحه شرعية تعينه على قضاء حاجاته المتجددة وتأمين احتياجاته المتضخمة. ولقد عرفت هذه المرحلة بفترة “التطهير القانوني أو العفوي”.

لم يتم التعامل مع كل من تعامل مع النازيين بالأسلوب نفسه. فالبعض تم وصفهم بالخونة وخضعوا للقضاء. والبعض الآخر اعتبروا بأنهم تعاملوا مضطرين وبشكل محدود. وكان الرئيس الفرنسي حينها، ومحرّر باريس، الجنرال شارل ديغول، يسعى الى الوحدة الوطنية. وبالتالي، فقد تجنّب تطهير أجهزة الدولة (مثل القضاء والشرطة والإدارة..) بشكل كامل وقد ركّز اهتمامه على إعادة بناء فرنسا وتجنب حرب أهلية. ولقد سمح هذا التصرف البراغماتي لبعض المتعاونين سابقاً مع النازية بالبقاء في مناصبهم أو العودة إليها تدريجيًا بعد فترة قصيرة من التغيب المرغوب. من جهة أخرى، فقد تمكن بعض المتعاونين من إعادة كتابة أدوارهم خلال فترة الاحتلال. فزعم البعض منهم بأنهم كانوا جزءًا من المقاومة السرية وأنهم لعبوا أدواراً أساسية خلف خطوط العدو. وزعم البعض الآخر بأن ما قاموا به كان هدفه حماية المدنيين. فاستطاعت هذه الفئات التلاعب بالذاكرة كيفما شاءت. وتمكنت فئات متعاونة أخرى من الاستفادة لاحقًا من العفو الرسمي الشامل أو الجزئي، مما أعاد لها حقوقها المدنية والسياسية طاويًا صفحة التعاون مع الاحتلال النازي.

كما أن البعض منهم قام بتبديل مواقفه الأيديولوجية رأسًا على عقب بعد الحرب. وقام البعض الآخر بالانضمام للتيارات السياسية السائدة، والتي كانت مع المقاومة، وعلى رأسها الجمهوريون المؤيدون لفرنسا الجديدة بقيادة الجنرال ديغول. لقد تمكنوا من الاستفادة من غموض وضعهم خلال الاحتلال وقدرتهم اللاحقة على تكييف صورتهم. كما استغلوا الرغبة السياسية التي برزت حينها في السعي الى تحقيق المصالحة الوطنية. وساعد العفو العام أو الجزئي، كما ضعف وتعقيد عملية المحاسبة عبر القضاء، في ذلك. لقد نجح هؤلاء في البقاء أو حتى الصعود مجددًا في الحياة السياسية أو الإدارية. ولقد اعتبر كثير من المؤرخين بأن ما حصل ما هو إلا نفاق تاريخي ليفتح بذلك جدلاً واسعًا في التعامل مع الذاكرة الجماعية الفرنسية.

من أبرز هذه الشخوص الرئيس السابق فرانسوا ميتران (1981 ـ 1995) الذي كان في حكومة فيشي منذ بدايتها وحاز على وسام من رئيسها سنة 1943 ليتركها قبل اندحارها وينضم الى المقاومة. وبعدها استطاع بناء مسيرة سياسية ناجحة للغاية، مع أن موضوع تعاونه مع حكومة فيشي أُثير لاحقًا وأثار جدلًا واسعًا، لكن ماضيه هذا لم يمنعه من الصعود. بالمحصلة، كثيرون من المتعاونين السابقين مع الاحتلال النازي وأدواته في فرنسا استطاعوا تبييض صورتهم أو الإفلات من المحاسبة. ولقد ساعد في ذلك تقاعس القضاء، إضافة إلى جرعة من البراغماتية السياسية، ورغبة النظام الجديد في النسيان وتحقيق المصالحة الوطنية.

أخطأ من يقول بأن التاريخ لا يُعيد نفسه، لكن في فرنسا، لم يقم أحد من هؤلاء لاحقًا بالتشكيك في مقاومة المقاومين الحقيقيين وجعل ألسنة وسائل التواصل، التي كانوا يفتقدونها -ولله الحمد- تلوك سمعة الشرفاء من مقاومين عسكريين ومثقفين. أما في سوريا، فكثيرون ممن يصح وصفهم بالمتعاونين المنقلبين، وليسوا من المنفلتين من الحساب فحسب، يقومون اليوم بتوزيع الاتهامات الكاذبة ذات اليمين وذات اليسار، معتقدين بأن ذاكرة السمكة منحة ربّانية. والله أعلم.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قراءة ومقاربة رائعة من التاريخ الفرنسي أيام الحرب العالمية الثانية وحكومة فيشي والمقاومة الوطنية الفرنسية، للأسف كثيرون ممن يصح وصفهم بالمتعاونين المكوعين، المنفلتين من الحساب، يقومون اليوم بتوزيع الاتهامات الكاذبة ذات اليمين وذات الشمال على الثوار الحقيقيين، معتقدين بأن ذاكرة شعبنا كالسمكة. العدالة الإنتقالية لن تنسى جرائمهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى