في الوقت الذي كانت هيئة المحكمة الدولية الخاصة، في جريمة اغتيال رفيق الحريري، ومعه إحدى وعشرين شخصًا من أفراد موكبه، والتي وقعت في 14 فبراير/ شباط 2005، تعرض حيثيات الحكم الصادر عنها، وحتى قبل الإعلان عنه في ختام جلساتها، وفق قواعد الإجراءات والإثبات المعتمدة لديها، انهالت ردود أفعال اللبنانيين والعرب، المعنيين والمهتمين بمتابعة أعمال هذه المحكمة، التي امتدت قرابة ثلاثة عشر عاماً، لتكشف تفاوت تلك الردود حسب مواقف الفرقاء من تشكيل المحكمة، تأييداً أو رفضاً لها. ففي الوقت الذي رأى المؤيدون وبقدر من التشاؤم، أن الحكم الذي خلصت إليه، يشكل نتيجة غير مرضيّة، وأقل بكثير من سقف التوقعات، بأن تقوم المحكمة في توجيه إدانة صريحة، للنظام السوري وحزب الله، وتحميلهما المسؤولية الجنائية والسياسية، عن ارتكاب تلك الجريمة المروّعة. فإن الرافضين للمحكمة منذ بداية تشكيلها، سرعان ما قاموا بتأويل حكمها، على أنه “صك غفران” لحزب الله والنظام السوري، وأن إدانتها للمتهم سليم عياش، وهو أحد قيادات حزب الله المتورط بالجريمة، ومعه مصطفى بدر الدين الأعلى من حيث المسؤولية الحزبية” وعدم شمول الأخير الحكم بسبب وفاته”، كل ذلك لم يغير من نزعة هذا الفريق إلى تبخيس قيمة الحكم الصادر، والتقليل من أهميته. كان لافتاً أن درجات الاحتقان السياسي في لبنان والمنطقة، هو أكثر ما يفسر التفاعل مع الحكم الصادر، وفق دوافع سياسية صرفه، لا يمكن القفز عنها مطلقاً، بحكم الطبيعة السياسية للجريمة نفسها، مما حجب النظر بدوره عن ضرورة فهم العديد من الجوانب القانونية، التي تتعلق بجوهر عمل وآليات هذه المحكمة الدولية الخاصة من جهة، والضوابط الإجرائية والموضوعية، التي تحكم هذا النوع من المحاكم الجنائية في القانون الدولي من جهةٍ أخرى.
تلك الجوانب لا بد من توضيحها، لإزالة أوجه التأويل والالتباس في النظر إلى قرار المحكمة، التي أنشئت بقرار من مجلس الأمن في (30 مايو/أيار 2007)، وكانت أول محكمة جنائية دولية تنظر في جريمة الإرهاب، في ظل عدم وجود تعريف موحد بين الدول، للأفعال التي تندرج في نطاق جرائم الإرهاب الدولي. وهي مشكلة واجهت المحكمة منذ تأسيسها، لأنها وفق قرار إنشائها بموجب اتفاق بين الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية، والذي ينص على أن تتبع المحكمة القانون اللبناني، على أن يكون أغلبية قضاتها غير لبنانيين. إذ فرض هذا الشكل المختلط للمحكمة، في ظل فقدان الثقة بالنظام القضائي اللبناني، وفي ظل الهيمنة الأمنية لحزب الله على المؤسسات المعنية بالتحقيق الجنائي، أن تضع المحكمة نظامها القانوني والإجرائي الخاص، بالتزاوج والموائمة بين القانون الجنائي العرفي الدولي، كما تم اتباعه في سوابق دولية ( محاكم يوغسلافيا 1993- رواندا 1995- سيراليون 2000 – كمبوديا 2006 )، واجتهاد المحكمة في تجاوز تعقيدات وصعوبات، سير عملها وإجراءاتها، بسبب الاستقطاب الحاد بين أطراف النظام السياسي في لبنان، بما يمكنّها من بلوغ الحقيقة التي تسعى إليها. تطلّب هذا السياق الخاص الذي طبع مسارات عمل المحكمة طيلة السنوات الماضية، جهداً مضاعفاً في تنقيح واستبعاد شهادات الزور التي حاولت تضليل المحكمة (رواية أبو عدس وغيرها)، وفصل مسارات التحقيق الجنائي والقضائي، عن تأثير الضغوطات والمتغيرات السياسية، بما يعكس استقلالية المحكمة، وقدرتها على الالتزام بتطبيق نظام المسؤولية الجنائية الفردية، الذي لا يشمل الأشخاص المعنوية (دول – كيانات – أحزاب)، كقاعدة عرفية أساسية لا يجوز الإخلال بها. ما كشف إلى حد ما عن جهل قانوني في طبيعة عمل هذا النوع من المحاكم، لمن يعتقدون أنه كان عليها إدانة حزب الله قضائياً طالما أن المدانين عياش بدر الدين يتبعان الحزب.
مع ذلك استطاعت المحكمة أن تشير بوضوح، للأطراف التي لها مصلحة سياسية في ارتكاب جريمة اغتيال الحريري، عندما عرضت في سياق تناولها أحداث ووقائع سياسية محددة، ما جرى في لقاء وليد المعلم مع الحريري المُستهدف، قبل عدة أيام من جريمة الاغتيال، ولقاء البريستول الذي جمع في بيروت المعارضين اللبنانيين للوجود السوري، على أنها وقائع تجيب بصورة كبيرة على سؤال الجهات المتورطة في التحضير والعمل على إزاحة الحريري، لدوافع وأسباب سياسية معروفة. جاء ذكر المحكمة لتلك الأحداث والمناخات المقترنة بها، بهدف الربط المنطقي بين الطابع السياسي لهذه الجريمة الإرهابية المنظمة، وحلقات تنفيذها بأدوات إجرامية، عملت المحكمة على تحديدها بدقة، من خلال تشددها في تطبيق مبدأ “الشك يُفسر لصالح المتهم”، لأن التوسع في تطبيقه، قد يثير الشكوك حول تسييس المحكمة “وهي شكوك عمل عليها الطرف الرافض للمحكمة بصورة حثيثة” ولذلك جاء قرار الحكم مبنياً على أدلة وإثباتات قاطعة، لتأكيد نزاهة وتجرد المحكمة.
من ناحية أيضاً لا يجوز إغفالها، لم يكن خافياً دور الأصابع التي عملت على تغيير مسرح الجريمة، وطمس الأدلة، وكل ما يساعد على توفير مستلزمات المطابقة الجنائية، عدا عن تضليل التحقيق، وتهديد واغتيال الضباط اللبنانيين، كحادثة اغتيال الضابط وسام الحسن، صاحب الدور الأكبر في الكشف عن شبكة اتصالات المتورطين بالجريمة، وهي مشكلات لم تواجه أي محكمة دولية سابقة، ومن المتعذر فهم ظروف عمل المحكمة الخاصة بلبنان، وليس بغرض الدفاع عنها، دون أخذها بعين الاعتبار. بل كان على هيئة المحكمة خلال عرضها حيثيات الحكم، أن تشرح للرأي العام ملابسات وظروف عملها الاستثنائية في الحالة اللبنانية، ومن المبكر الحديث عن تقصيرها في هذه المسألة، التي قد تكون موضحة في تفاصيل سجل الحكم، الذي لم يُنشر بعد على موقعها الرسمي.
ربما من الاستنتاج المتسرع، تأويل الحكم الصادر، بأنه يصب في مصلحة حزب الله وحلفائه، لا سيما أنه لم يفلت فعلياً من الإدانة السياسية، التي نجدها في حيثيات الحكم. بالمقابل من الوهم المبالغة في تقدير دور المحكمة بتحقيق العدالة، في بلد يحتاج إلى تغييرات جذرية في نظامه الطوائفي الفاسد، وفي إنهاء اختطاف حزب الله لقراره الوطني المستقل، وهي مهمة أكبر بكثير من المحكمة الدولية، التي يفترض استثمار حكمها الأخير، مع المطالب المُلحة في كشف المتورطين بانفجار مرفأ بيروت، بما يؤدي إلى تعديل موازين القوى الداخلية، لصالح القوى الساعية نحو التغيير والحرية، في مواجهة عصابات الموت والنهب والخراب.