وجود الحياة السياسية الفاعلة مرتبط بفاعلية الأحزاب السياسية

محمد علي صايغ

إن قيام الدولة بوظائفها المختلفة وترسيخ الديمقراطية لا يمكن أن يتم إلا بأحزاب قوية تأخذ على عاتقها مسؤولية النهوض بمستوى أداء مؤسسات الدولة والحكم ، وتحشيد الرأي العام والتعبير عنه لفرض مطالبه مرحلة بعد أخرى من أجل تجاوز العطالة في مستوى أداء مؤسسات الدولة المختلفة  ، أو عند إنحراف القوى الحاكمة عن الالتزام ببرامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. ، أو حين نكوص الطبقة السياسية الحاكمة بتعهداتها تجاه الكتلة الشعبية التي انتخبتها .

وإذا كان وجود الحياة السياسية الفاعلة في المجتمع مرتبط بالدولة الديمقراطية ومؤسساتها الحاكمة المنتخبة .. فإن وجود الأحزاب السياسية يعتبر إحدى تجليات ومرتكزات الممارسة الديمقراطية ، وضرورة من ضرورات بناء النظم الديمقراطية الحديثة

وتأتي أهمية وجود الأحزاب من فاعليتها على إعطاء ديناميكية فعالة للمشهد السياسي ، وقدرتها على العطاء والجذب على المستوى الشعبي المستند إلى برامج تتقاطع مع مطالب الناس وتنحاز لهم ، في إطار من التعددية السياسية المبنية على الحضور في عمق المجتمع ، والمتفاعلة مع المتغيرات الحاصلة فيه ، والارتقاء بالوعي السياسي ، وتأطير المواطنين وتوظيف إمكاناتهم ، تمهيداً لإعداد النخب السياسية والتمثيلية وتأهيلها لتحمل المسؤولية في مختلف المؤسسات الوطنية ..

كما أن وجود أحزاب قوية في أي نظام ديمقراطي يتطلب أن تكون بنية هذه المؤسسات الحزبية وقواعد عملها والنظام الذي تحتكم إليه يرتكز على قواعد ديمقراطية فعلية في حياتها الداخلية .. ولا يتأتى ذلك إلا عبر مناخ ديمقراطي تتأسس عليه الدولة ، ودستور وقوانين تؤكد مشروعية وجود الأحزاب وتأسيسها وترخيصها بدون عقبات ، وتؤكد مشروعية دورها وحراكها في الوصول الى الحكم أو في معارضته ..

ولذلك فإن ضعف قوة الاحزاب أو غيابها او تهميشها في المشهد السياسي جزء من سياسة ممنهجة للنظم الاستبدادية لاستمرار حكمها وتأبيده ، وسد كل الطرق للإصلاح والتغيير ، وبالتالي ترك البلاد عرضة لانقلابات عسكرية تركب على خط السياسة ، أو حصول التغيير على خط الأسرة الحاكمة وصراعاتها باستبدال رموز الحكم بٱخرين من ذات العائلة ، أو ما قد يجره الاستبداد وعسفه وتراكمه من انفجارات شعبية لا أحد يتكهن عواقبها ونتائجها ، ولا الجزم بنجاحها أو فشلها .. ومن هنا تدرك تلك الأنظمة الاستبدادية أن إضعاف الأحزاب وتهميشها يشكل دائماً فرصة مهمة لاحتواء ، ومن ثم إنهاء أي انفجارات شعبية عفوية لا تستند على أحزاب تنظمها وتحركها وتخطط لها وتفرز دائما مؤسسات حزبية قوية وجاهزة للحلول بنخبها المدربة محل السلطات التنفيذية في مختلف مؤسسات وإدارات الدولة والحكم تبعاً للتداول السلمي للسلطة  .

وليس غريباً أيضاً أن النظم العربية كانت مدركة لمخاطر وجود الأحزاب وتعددها في الحياة السياسية ، ولم يكن تمسكها بفرض نظام الحزب الواحد ، أو السلطة العائلية الواحدة أو إحداث نظام فلكلوري شكلي لأحزاب متعددة من قبيل الصدفة أو لمجرد العبث بالخارطة الحزبية وإنما كان عبر تخطيط ممنهج لتصحير الحياة السياسية وإفراغها من أي معارضة ذات وزن تهدد استمرار وجودها . عبر إضعاف هذه الأحزاب والتضييق عليها وملاحقتها وزج قادتها و نخبها في السجون  ، إضافة إلى إضعاف الدور والحضور لقوى المجتمع المدني إلا من أعمال هامشية محدودة .

 لم يكن وجود المعارضة السورية بأحزابها عبر عقود عديدة إلا نموذجا شديد الوضوح و استثنائياً لحالة الإقصاء السياسي المعمم الذي رزحت تحت مفاعيله في نظام سابق يعتبر الأكثر توغلاً في مدى استبداده وتحكمه وإغلاق كل منافذ الحياة السياسية ، مما شكل كل ذلك عوامل موضوعية مؤثرة جداً في ضعف تلك الأحزاب وغياب دورها وتأثيرها ..

 لكن العوامل الذاتية البنيوية الداخلية  كان لها دور في ضعف الأحزاب وفعلت فعلها في تحديد حركتها وحراكها ، وساهمت في عطالتها ، وفي استمرار هشاشتها البنيوية ، وفي تخلفها عن فرض دورها وحضورها في الساحة السياسية  ، ويتحدد دور العامل الذاتي في :

١- انغلاق القوى السياسية في إطار قوالب تقليدية  سواءً في طبيعة بنيتها غير المتجددة أو انغلاق رؤيتها ورؤاها على آليات عمل مستنسخة ومكررة ، حبست حركتها ودورها في إطارها ، هذا عدا تخلفها عن إجراء مراجعة نقدية حقيقية لبنائها وبنيانها ، وعجزها عن ممارسة فعلاً تطويرياً في هياكلها الحزبية وديناميكيات عملها . كما عجزت عن إفراز قيادات شابة جديدة لمواقع صنع القرار فيها لتشكل بديلاً حيوياً عن القيادات التقليدية القائمة

٢- كان لسيادة الأيديولوجيا في تلك الأحزاب السياسية أثرها الهائل على البرامج السياسية لها ، وبما يمكن أن تشكل – وفقا لطبيعتها – عاملاً للفرز والتقسيم بين هذه الأيديولوجيات وحواضنها السياسية ، والتحول  إلى حالة من الانغلاق والتعصب واتهام من لا يؤمن بأيديولوجيتها أو من يعمل على تطويرها بأنه مرتد أو منشق ، وفي أنماط أكثر تعصباً إلى عدو يعمل للنيل من الحزب وضرب مشروعه الفكري والسياسي السائد .

هذه الوضعية للاحزاب السياسية أنتجت أيضاً رؤى سياسية مطابقة لتلك المرجعيات تحكمت بالبناء السياسي وفي آليات إنتاج خطابها ومواقفها ضمن تكوينها الداخلي فاعتاد خطابها السياسي على مخاطبة السلطة ومناداتها بالإصلاح والتغيير أكثر من مخاطبة الشعب والاقتراب من معاناته الاجتماعية والاقتصادية ، يضاف الى ذلك  القصور والتقصير في إعداد برامج سياسية واقعية للتغيير وحشد الشارع حولها بعملية تأهيل وتثوير تمهد لكسر ثقافة الخوف التي تحولت بالتدريج إلى ثقافة رعب لدى عموم المواطنين عبر أكثر من خمسة عقود .

 ٣- غياب العقلية المؤسساتية عن تشكيلات الأحزاب واعتمادها على رصيدها الرمزي والتاريخي , مما أوقعها في حالة من التكلس في بناها الفكرية والتنظيمية , وجرها إلى حالة من التراخي والسبات , وعدم تجديد قياداتها الهرمة , وبالتالي العجز على تقديم مشروع اجتماعي اقتصادي ديمقراطي .

هذه الوضعية الداخلية للأحزاب المعارضة أوقعتها في حالة من الانكفاء على ذاتها والانغلاق على مشاكلها الداخلية , والإهمال لدورها في أوساط جماهيرها التي طالما نادت بالالتصاق بها

   وهكذا فقدت الأحزاب المعارضة القدرة على الإنجاز وتقلصت قاعدتها الشعبية والاجتماعية وزادت عزلتها عنها . وترافق ذلك مع غياب نضالات اجتماعية عبر برامج أو مشاريع اجتماعية واقتصادية أو عبر اقتحام منظمات المجتمع المدني من نقابات وجمعيات ونوادي …. واكتساب خبرات في كيفية الإدارة والحكم التي لا تتطابق فعلياً مع نموذج إدارتها لأحزابها . .

ولا شك أن التحديات التي تنتظر المعارضة السورية  بعد إزالة النظام القمعي البائد كثيرةً ومعقدةً , وتحتاج منها الى جهود مضاعفة لإثبات دورها وقدرتها على تحمل المسؤولية التاريخية للمشاركة في البناء السياسي للدولة ، وفرض حضورها على الخارطة السياسية  ، وتجميع قدراتها وقواها المنظمة وإقامة التجمعات والجبهات لحشد قواها من أجل المساهمة في التحول الى نظام مدني ديمقراطي تعددي , يكفل الحرية والعدالة والمساواة لكل أبناء الوطن . وفي مقدمة هذه التحديات أيضاً قدرتها على المراجعة النقدية العميقة في نهجها وآليات عملها ، وإعادة التقييم لمرجعياتها الفكرية والايديولوجية التقليدية والبنى المعرفية النمطية لديها ، وفرز الثابت والمتحول في الفكر والممارسة . والقيام بإعادة الهيكلة لمؤسساتها الحزبية على قواعد ومعايير تتجاوز العشوائية والانتقائية وترسي أسس التخطيط الاستراتيجي في تنفيذ برامجها وأهدافها ، وفق قواعد المشاركة وتداول السلطة دوريا داخلها ، وعدم إلغاء الآخر وإقصائه . وإعادة الاعتبار لشعار ” الهجرة الى الجماهير ” وتحويله من شعار نظري إلى تطبيق فعلي بنظرةٍ جديدة تستوعب المتغيرات وتضع البرامج والخطط التنفيذية لتفعيله ، تمهيداً لحشد الجماهير وتثويرها وشد انتباهها ودفعها للاهتمام بالعمل الوطني العام والمشاركة فيه

 .

ويظل الرهان على الأحزاب السياسية كبيراً في هذه المرحلة التاريخية من التحولات في بلدنا ، والتي تحتاج لدور وفعل تلك الأحزاب لمنع الانزلاق إلى الحرب الداخلية أو الفوضى ، أو الدخول في صراعات ما قبل الوطنية بما يهدد وحدة سوريا ووحدة شعبها ، رهان يرتبط نجاحه بقدرة الاحزاب  في تأطير المواطنين وتنظيمهم وحشدهم ، وإلى إجراء المصالحة بين المواطن من جهة والسياسة والشأن العام من جهة أخرى، عبر خطابات تستوعب التحولات السياسية و المجتمعية العميقة الراهنة وتدفع الى العودة الى صفوف الجماهير والتفاعل مع مطالبها وطموحاتها ، والى العودة المستمرة الى بناء الذات وتأسيس  ديمقراطية داخلية كفيلة بتحصين الذات ، وتجدّيد القيادات والنخب السياسية بمستوى عال من الكفاءة والنزاهة والمسؤولية الوطنية .وعليه فإن الأحزاب التقليدية اليوم أمام اختبار صعب ، فإما أن تجدد بنيانها وبنائها ومناهجها الفكرية وخطابها أو أن تنزوي وتضمحل وتحل محلها أحزاب جديدة بفكرها وأدائها وٱليات عملها

  وفي ظل التدافع الدولي من أجل فرض الدول حضورها ونفوذها وأطماعها على الأرض السورية ، فإن ذلك يضع الجميع سلطة ومعارضة  أمام مسؤولياتها التاريخية في الحفاظ على الوحدة الوطنية وتماسكها أمام جميع مخططات النيل منها أو الدفع نحو تصعيد النوازع الأقلوية والطائفية والمناطقية التقسيمية  والعمل على ترسيخ عقد اجتماعي جديد يرسي دعائم الحرية وتأسيس دولة المواطنة المتساوية ..

وفي هذه المرحلة التاريخية أيضاً أصبح أمام المعارضة مسؤولية أكثر إلحاحاً في اجتماعها وتجمعها واتفاقها على مشتركات وأولويات للعمل , وإنهاء حالة الاستقطاب والتجاذب غير المبررة وصولاً الى تجمع وطني ديمقراطي واسع يفضي إلى عقد المؤتمر الوطني العام للقوى والأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني والنقابات العلمية والمهنية والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والشخصيات الوطنية المستقلة من أجل صياغة عمل مشترك ورؤية سياسية مشتركة ، وٱليات عملية للعمل على إنجاز التحول السياسي الديمقراطي وفرضه ، ليكون النظام الديمقراطي سداً منيعاً لعدم توليد استبداد جديد ، ومن أجل رسم مستقبلاً واعداً لبلدنا وشعبنا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى