
يجري زمن الأحداث، فلا تتحرّك مياه الحكاية اللبنانية. يُظْهِرُ المواطنون “الافتراضيّون” ثباتًا مدهشًا في سكون الكلام، ولا تهتزُّ “قصباتُ” نصوصهم، في حين أن مَدَّ الموجِ العاتِي يُلقي بالنصوص على رمال الشطآن. تبدو اللحظة المعيشة، ساقطةً من حساباتِ العيش، ويبدو إطارُ الصورة المحيطة بالأحياء، فراغًا، فلا تلتقطُ دواخلَه أعينُ المنشغلين عن الصورة، بأوهام أُطُرٍ وصُوَرٍ مفارقة لأصل الإطار الواقعي، وللبعد اليومي الذي تنتمي إليه الصورة.
الانشغالُ عن الموضوع، بما يقعُ خارجَ الموضوع، تطلعُ منه نتائجُ وخلاصات لا تتجاوز “مَوْرِدَ” أصحابها، ولا تتعدَّى سقفَ أهلها، الفقير ارتفاعًا، والمكبّل بأثقاله اجتماعًا.
رَسْمُ الإطار والصورة، بخطوط نافرة عارية، وبألوان متداخلة صافية، ليسَ في متناول الأهليّاتِ اليوم، مثلما لم يكنْ في متناولهم بالأمس، لذلك تُلْقَى مسؤوليةُ الرسم والتلوين، على عاتق من يقف قرب جملةٍ سياسية مشتركة “عابرة”، تقتضيها لحظة الاشتباك السياسي الأهلي، الراهنة.
والحال، ما المشتركُ الممكن الذي يمكن استنقاذه من “الخِلافي” العام؟ وما الأولويّاتُ المصيرية الداهمة، التي يجب تقديمها على الفرعيّات، من دون تجاهل لهذه الأخيرة، ومن دون إقصاء لمعانيها، أو لحساسيتها، في الأعراف الأهلية اللبنانية المعلومة.
العدوانية الدوليّة:
قراءة الوضع الدولي الراهن، عنوان للنقاش المشترك الذي يتطلب خطوط تفاهم متقاطعة حوله، فلقد بات واضحًا، وأكثر من أية فترة ماضية، أن الدولي يحتلّ مكانًا مقرّرًا في البنيات الوطنية، وأنّه يتحكم بالشطر الأوسع من عوامل استقرارها.
تحتل النزعة العدوانية المقام الأول في سياسة” الدولي”، وتتصدر الولايات المتحدة الأميركية هذه النزعة، بقيادة “الترمبية” التجاريّة، التي تجادل اليوم في “الأسعار والأجور والأرباح”، مثلما تجادل في جغرافيا الكيانات الوطنية، وفي سيادتها وفي ثرواتها.
الحرب التجارية التي أعلنتها الإدارة الأميركية، يجوز وصفها بالحرب العالمية الثالثة، حيث السلاح الأهم الضرائب والرسوم والعقوبات، ومن ثمّ الأسلحة النارية التقليدية، مباشرةً أو بالواسطة. ليس غريبًا عن السياق القول، إنها حرب “التدمير” الاقتصادي الشامل، لاستتباع كل اقتصاد، ما دامت حرب أسلحة “الإفناء المتبادل” متعذرة.
استرجاعيًّا، وللتذكير والذكرى، أشعلت العدوانية الرأسمالية الحربين العالميتين، الأولى والثانية، من أجل اقتسام البلاد وما ومن عليها، وتشبّهًا بالبارحة، واستنساخًا لأهدافها، تخوض الرأسمالية حرب سيطرة ناعمة وخشنة، على “العالم” وعلى أهله وعلى موارده.
تظهير اللحظة، يضع أمام من يريد أن يرى، صورة إعادة صياغة للمصالح، وإعادة ترسيم للكيانات، وإعادة تعريف للمشتركات التي صاغها المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية، وإعادة تعريف واعتراف، أو نفي لاعتراف، بشعوب كاملة وبأوطان تامّة.
تحت سماء هذه العدوانية، التي تتحرّك من دون ضوابط ولا قيود، ما هو الموضوع الضروري اللازم، الذي يجب أن يحرص الجميع على سلامة استقامة مندرجاته؟ لعلّه الحفاظ على ثبات الكيانات الوطنية، وحمايتها من التفتيت والتجزئة، وتحصينها في وجه تداعيات انفلات العدوانية، من خلال توفير مقوّمات الحصانة الوطنية الداخلية، ومن خلال المبادرة إلى سدّ المنافذ التي قد يتسرّب منها كَمٌّ من التداعياتٍ السلبيّة لأحداث المحيطين، العربي والإقليمي.
تقهقر الوطنيات العربية:
تلازم قراءة اللوحة العربية، مع قراءة اللوحة الدولية، شرط استكمالي للوصول إلى التدقيق في اللوحة الأهلية اللبنانية. في المجال العربي، ومن دون افتئات على الواقع، دخلت الأحوال العربية في مرحلة تقهقر متوالية تظهر علاماتها في تبدّل عناصر الروابط العربية المشتركة، وتقدّم المعالجات الفردية المحلية على الالتفات إلى ضرورات المعالجات الجمعيّة.
بداية التدهور الثاني للوضع العربي العام، كانت مع هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967 ضد إسرائيل، فهذه أدّت في جملة ما أدّت إلى تراجع الطموحات الوحدوية، وإلى فشل التجارب الموسومة “بالإشتراكية”، وإلى خيبة جمهور “الثورة” من النتائج الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها الثورة. فشل الوعود، عوّضته الأنظمة بالقمع المنظّم، وبخنق الحريّات، وباستبداد تعددت نسخه، وتشابهت أفعاله، والنتائج المقيتة لهذه الأفعال.
انهيار المجموع العربي، أخذ البلاد إلى التبعيّة المالية والسياسية، ودفع البلاد نحو أزمات متفجّرة، اتخذت أشكالاً من الحروب الأهلية، المضبوطة والمنفلتة من كل عقال. شواهد ذلك ما زالت ماثلة للعيان، حيث القتال الأهلي ما زال مستمرّاً، وحيث الصراع الداخلي ما زال مفتوحاً، في أكثر من بلد عربي، بعد أن صمتت أصوات الأسلحة القتالية.
لقد فقدت الوطنيات العربية أجزاء هامّة من مناعتها، حيال الوضع الدولي، وحيال الصراع مع المشروع الإسرائيلي، وفي موقعها من الصراع مع المشروع الإيراني.
مواضع ضعف المناعة واضحة وجليّة في الاقتصاد وفي الاجتماع وفي اللحاق بركب التقدم التكنولوجي. ما يتوالى اليوم على شاشة الأحداث يقدم أدلّة دامغة على ذلك. مثال الحرب الإسرائيلية على لبنان وعلى غزّة واحد من الأدلة، والهجمات الأميركية في اليمن، وتهديد إيران بأقسى العواقب، دليل آخر، واضطرار المستهدفين من عرب وعجم، ومن شرق وغرب، إلى الانحناء للعاصفة، هو دليل إضافي على الآثار العملية التي نجمت عن الفاصل التكنولوجي الهائل، الذي صنع مسافة زمنية شاسعة بين التابع والمتبوع.
عود إلى التلازم بين سطوة الدولي، وكبوة العربي، للقول إن المدى الذي يضم العربي والإقليمي، يتحسس رقاب بلاده، لذلك تندّ عنه إشارات انخراط في صفّ الانضباط، من دون كبير مشاكسة لن تصل بالمشاكس إلاّ إلى المزيد من الخسائر، في ظل اللوحة الراهنة لتفوّق العوامل الدولية.
الفوضى اللبنانية:
اللبنانيون الذين يسعون إلى انتظام ما، يسلكون إلى ما يدّعون أنهم يجدّون في طلبه، دروباً غير متقاطعة، بحيث لا يوصل حاصل المسير إلى نقطة استراحة مشتركة. في غمرة هذه الفوضى، لا يبدو أن اللبنانيين على دراية بما يدور حولهم، فإن لم يصح الظن بلا درايتهم العامّة، صحّ “العلم” بدرايتهم المتفرقة التي يستند إليها كل فريق من أبناء الداخل.
هكذا نقترب من القول: إن كل طرف لبناني يهتم بما يناسب “خصوصيته”، ويُهمل ما يخص خصوصية الآخر، لذلك، يصير الدولي والإقليمي والعربي، عنصر استقواء في البحث الخصوصي الفردي، أي عنصر تباعد، بديلاً من أن تكون له قوّة الدفع الإيجابي لجداول الأهليّات المتفرقة، في سعيها إلى ابتكار مصبّ مشترك لمجاريها المتعدّدة.
ولأن للقول صلة، لا بأس من ذكر المواضيع الإشكالية التي استعادت زخمها بعد حرب الإسناد التي خاضها حزب الله في الجنوب، وبعد الاتفاق على وقف إطلاق النار في تشرين الفائت من العام الماضي، وفي ظل استمرار الأعمال العدوانية الإسرائيلية من دون رادع، وفي خرق فاضح كما نصّ عليه اتفاق وقف الأعمال القتالية.
ذكر المواضيع غايته فتحها على مصاريعها، من السلاح ونزعه أو احتوائه، أو إهماله، إلى الدولة وبنائها، إلى الانقسام لغةً وسياسةً ومواقفَ لامست حدود العداء… إلى انفراط الشعور الجمعي، بملامحه الإنسانية، أو بروابطه الوطنية التي لا تترك مجالاً للشماتة، أو للتخوين، أو استسهال دعوة العدو إلى تحطيم بشر وحجر “الشركاء” المختلفين.
في زمن مختلف، يختلف القول والشرح والأهداف. في هذا الزمن المختلف، كيف سيتصرف اللبنانيون لكي يصيروا لبنانيين، وليبقى لهم لبنان.
المصدر: المدن