بيان مؤتمر القامشلي وتداعياته على مفاوضات قسد مع الحكومة السورية

حسن النيفي

استقبل كثير من السوريين بمزيد من الارتياح والغبطة نبأ اتفاق العاشر من آذار الماضي الذي وقعه الرئيس أحمد الشرع وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” ( قسد ) مظلوم عبدي، ولم يكن مبعث هذا الارتياح الشعبي قائماً على توقّع نتائج مباشرة يمكن أن تتمخّض عن هكذا اتفاق، بقدر ما هو منبعث من شعور يحتاجه السوريون جميعاً، وهو الترجمة الحقيقية لضرورة حلّ الخلافات السورية – السورية عن طريق الحوار واستبعاد العنف.

كانت هكذا خطوة تفاوضية من طرف الجانبين الشرع – عبدي من شأنها أن تؤسس لمسيرة من الحوار الوطني ليس بين العرب والكورد فحسب، بل بين جميع الأطراف السورية التي  اختلفت فيما بينها طوال السنوات السابقة، ثم تعزّز شعور السوريين بمزيد من التفاؤل حين تلت اتفاق آذار تفاهمات أخرى بين دمشق وقوات “قسد” حول حَيّي ( الأشرفية والشيخ مقصود) وعلى إثر تلك التفاهمات تم تبادل الإفراج عن الأسرى والمعتقلين من كلا الجانبين، في خطوة كان لها تداعيات اجتماعية وإنسانية طيبة، وحين استمرّت التفاهمات بين الجانبين لتشمل ( سد تشرين) لتعزّز الاعتقاد لدى غالبية السوريين بأن هكذا تفاهمات إنما تمضي نتيجة لوصول الطرفين (الحكومة وقسد ) إلى القناعة بأن قدرة السوريين على بناء دولتهم الجديدة مرهونة بقدرتهم على حل خلافاتهم الداخلية عن طريق الحوار وتغليب المصلحة الوطنية العامة على الإرث السابق من التنافر، وكذلك مرهون بقدرة كلا الطرفين على تلمّس حاجات السوريين وتقدير حجم مأساتهم طوال أكثر من عقد من الزمن، وأن الواقع المأسوي الذي أفرزته سنوات الحرب ينبغي أن يعزّز في نفوس المتفاوضين وأذهانهم معاً إحساساً عالياً بالمسؤولية يجعلهم يرون الأولويات الوجودية للشعب السوري (حق الحياة والعيش الكريم وتوفر الخدمات واستبعاد الحرب والعنف والحصول على الأمان ) هدفاً مشتركاً ينبغي الوصول إليه.

بات واضحاً ان عملية التفاوض ما تزال ملغومةً بالمزيد من الريبة وعدم الثقة، بل هي قابلة للانتكاسة في أية لحظة يشعر بها أحد الأطراف بالغبن أو بأنه لم يحقق ما يتطلع إليه

 

في الثالث عشر من آذار الماضي أعلنت رئاسة البلاد عن توقيعها على إعلان دستوري ليكون مرجعية دستورية للمرحلة الانتقالية، وقد أثار مضمون الإعلان جملةً من الملاحظات والانتقادات ليس من جانب الكورد فحسب، بل من جميع السوريين، وهذا أمر طبيعي جداً، إذ ليس من اليسير أن يتناسخ جميع السوريين القناعات والأفكار، ولكن يبدو أن مواقف “قسد” من الإعلان لم تتوقف في حدود النقد والمطالبة بتعديل الإعلان الدستوري أو تغييره، بل كان لها تداعيات مباشرة على سيرورة التفاوضات الجارية مع الحكومة والتفاهمات التي أُبرمت سواء في العاشر من آذار أو فيما يخص حيّي ( الأشرفية والشيخ مقصود) أو فيما يتعلق بمسألة تحييد سدّ تشرين عن الخلافات ودائرة العنف، وبات واضحاً أن عملية التفاوض ما تزال ملغومةً بالمزيد من الريبة وعدم الثقة، بل هي قابلة للانتكاسة في أية لحظة يشعر بها أحد الأطراف بالغبن أو أنه لم يحقق ما يتطلع إليه.

واقع الحال يؤكّد أن ثمة مسائل أساسية ثلاثاً  كانت غائبة  عن مشهد المفاوضات، تتمثل الأولى بوجوب قناعة الأطراف المتفاوضة بأن تحقيق الأهداف المرجوّة من التفاوض لا يمكن أن يتحقق دفعةً واحدة، وأن عملية التفاوض تقتضي بالأصل المزيد من المرونة والاستعداد لتفهّم مطالب الطرف الآخر، وأن أي عقبة تعترض التوافقات يمكن أن يعاد النظر فيها، وبالمجمل فإن الوصول إلى توافقات نهائية حول أية مسألة إنما هي نتيجة لمسار تراكمي من الحوار وتبادل وجهات النظر وتدوير الزوايا ولا يمكن أن تتحقق كمنجزٍ جاهز مفاجئ. وتتمثل المسألة الثانية بتعدد مسائل الخلاف وموضوعات التفاوض، ذلك أن الاتفاق حول بعض منها والاختلاف حول بعضها الآخر لا ينبغي أن يثني الجميع عن المضي بالحوار، فما تمّ الاتفاق حوله ينبغي التمسّك به كمنجز مشترك، يكون حافزاً للمضي في تذليل الخلافات حول المسائل الأخرى. في حين تتمثّل المسألة الثالثة بوجوب الاعتقاد لدى جميع الأطراف المتفاوضة بأن الحوار الوطني والتفاوض بين الأطراف السورية – السورية يوجب على الجميع استبعاد مفهوم ( الربح والخسارة) لأن أي تفاهمات تفضي إلى تعزيز المصالح السورية العامة هي ربح عائدٌ إلى الجميع وليس فوزاً يحققه طرفٌ على آخر. وانطلاقاً من ذلك، كان يمكن لـ”قسد” أن تحتج أو تسجّل ما تشاء من ملاحظات على فحوى الإعلان الدستوري، وتطالب  كما يطالب غيرها من السوريين بتعديل الإعلان أو تغييره، ومن حق الحكومة – في هذه الحال – القبول أو الاعتراض، أي أن العملية لا يمكن اعتبارها صراع إرادات أو ليّا للأذرع، بقدر ما هي مسار تفاوضي يخضع للأخذ والردّ وتقليب وجهات النظر والاحتكام إلى مبدأ الصالح العام قبل أي مكاسب فئوية أو حزبية.

في السادس والعشرين من نيسان الجاري أصدر مؤتمر القوى الكردية الذي انعقد في مدينة القامشلي وثيقة سياسية، أكّد أنها تمثل كافة أطياف الشعب الكوردي في سوريا، كما تضمنت هذه الوثيقة تصوّراً شاملاً عن رؤية القوى الكوردية للدولة السورية المستقبلية وفقاً للبيان الصادر عن المؤتمر، وبعيداً عمّا انطوت عليه بنود البيان النهائي من تصورات، إلّا أنه يمكن الإشارة إلى ثلاثة منها، باعتبارها تُجهِز على أية عملية حوار مستقبلية، وتسهم في تعزيز الفجوات التي ظن كثير من السوريين أنها قد رُدِمت:

  1. إصرار “قسد” على الذهاب إلى الفدرالية والتي أسمتها باللامركزية، من دون تحديد ملامح هذه اللامركزية ولكن استيفاء مضامين بقية البنود التي تضمنها البيان يفصح بأن الفيدرالية هي خيار قسد الأخير.
  2. تنظر “قسد” إلى تموضعها الحالي في الجزيرة السورية وحيازتها قوة عسكرية ومادية، وسيطرتها على مساحات من الجغرافيا السورية وكذلك سطوتها على موارد اقتصادية سورية هامة، على أنه مكسبٌ لـ”قسد” يجب الحفاظ عليه، بل هو الورقة الأقوى لها في أي عملية تفاوضية مع الحكومة السورية، وما لا تريد ذكره “قسد” هو أن تلك الجغرافيا التي تسيطر عليها هي أرض سورية لجميع السوريين وليست لـ”قسد” وحدها، ذلك أن معيار السطوة العسكرية الذي أتاحته سيرورة الحرب في سوريا لا يمكن اعتماده كمرجعية قانونية في التفاوض، وأن موارد تلك المناطق التي تسيطر عليها قسد هي موارد وطنية لجميع السوريين وليست لمن حاز السيطرة عليها.
  3. يبدو أن مسألة الاستقواء بالخارج لن تكون عاملاً مطمئناً لمن أراد أن يكون شريكاً حقيقياً في بناء الدولة وليس وافداً إليها أو ضيفاً يحل على أرضها، فالمطالبة بتشكيل جمعية تأسيسية مطلب سوري عام، ولكن لماذا ينبغي أن يكون تحت حماية دولية؟.

هذا الدعم الإقليمي والدولي للمطلب الكوردي لا ينبغي ترجمته وفقاً للرغبات والأجندات الخاصة لـ”قسد” فحسب، بل يجب فهمه في ضوء مصالح تلك الدول والأطراف الإقليمية أيضاً.

 

لعله من المفيد لقسد، ولسواها من القوى الكردية السورية الأخرى، الوقوف عند أمرين اثنين:

  1. إن معظم الأطراف الدولية النافذة في الشأن السوري، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها المظلة العسكرية لـ”قسد”، إنما تكمن مصالحها في سوريا حين تكون موحدة ، وقد بدا ذلك واضحاً في جميع مواقف تلك الدول، ولم تدع أي دولة من الاتحاد الأوربي أو تركيا أوروسيا أو أمريكا إلى تقسيم سوريا.
  2. لعله من الصحيح أن معظم الأطراف الإقليمية والدولية تدفع باتجاه إيجاد حل للمسألة الكردية في سوريا، بما في ذلك الدول التي حضر ممثلون عنها في المؤتمر، وأيضاً بما في ذلك السوريون من باقي المكونات العرقية، إلّا أن هذا الدعم الإقليمي والدولي للمطلب الكوردي لا ينبغي ترجمته وفقاً للرغبات والأجندات الخاصة لـ”قسد” فحسب، بل يجب فهمه في ضوء مصالح تلك الدول والأطراف الإقليمية أيضاً.

ولئن كانت “قسد” تدين بالشكر والامتنان وتشيد بدور رئيس إقليم كوردستان السابق مسعود برزاني في مساعيه التي أسهمت بإقامة مؤتمر القامشلي، فقد كان أولى بها – في الوقت ذاته – أن تستفيد من تجاربه السابقة أيضاً بخصوص أي مشروع انفصالي، ولعل تجربة التصويت على انفصال كوردستان العراق لم تزل في الأذهان.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى