لماذا لم يعد مقبولا تأجيل العدالة الانتقالية ؟

معقل زهور عدي

يمكن للمرء تفهم ضرورة أن يمنح الشعب للحكم هامشا للحركة مبنيا على أساس الثقة , فالادارة لايمكن أن تطلع الشعب على الصغيرة والكبيرة , ومن يده بالنار ليس كمن يده بالماء , وحكم سورية في هذه المرحلة مسألة بغاية الصعوبة , فالحاجة ماسة لمنح الحاكم التأييد والدعم وغض النظر عن الأخطاء الصغيرة , مع ذلك فلابد من لفت انتباه الحكم للأخطاء الكبيرة التي تحدث بسبب تراكم المسؤوليات والملفات أمام الحاكم , آخذين بالاعتبار أن الدائرة المحيطة بالحاكم في بلادنا لم تتعود الصراحة في ابداء الرأي , كما مازلنا نفتقد للمؤسسات الاستشارية الضرورية لحكم بلد تتراكم فيه الاحتياجات والأزمات بعضها فوق بعض في حالة استثنائية .

هناك وقفة ضرورية عند مسألة العدالة الانتقالية , وأبادر للقول أنه لابد أن يقدر المرء صعوبة تناول تلك المسألة والاشكالات التي سترافق فتح ذلك الملف .

أول ماسوف يواجه مثل تلك الهيئة هو العدد الكبير غير العادي لمرتكبي الجرائم في العهد البائد , وهذا واضح منذ الآن , فأجهزة المخابرات سيئة الصيت كانت بمثابة أخطبوط وحشي تمتد أذرعته لكل زاوية وكل مدينة وكل حي في سورية , وكلها متورطة في تعذيب وقتل وسجن السوريين من أكبر ضابط في أي فرع وحتى أصغر سجان , ومن شبه المستحيل أن تجد أحدا في تلك المؤسسات الاجرامية لم تتلوث أيديه بالدماء , أما أعداد الضباط وصف الضباط والمخبرين فيها فهو بمئات الألوف بالتأكيد . هذه واحدة .

نأتي إلى المؤسسة العسكرية الرسمية التي تم توظيفها بصورة تامة بعد الثورة السورية خاصة ( وقبلها أيضا لكن بصورة متقطعة ) لخدمة المهمة غير المقدسة في قمع الشعب السوري ومعاملة المدنيين كما تعامل جيوش العدو في قصف المتظاهرين بالمدفعية والطيران والصواريخ , وتدمير المدن والحواضر فوق سكانها والتي كانت توصف كحاضنة للمعارضة . فكيف يمكن تبرئة الطيار الذي قصف المدارس والمستشفيات والأسواق والبيوت من تهمة القتل المتعمد والجريمة ضد الانسانية ؟ ومثله جميع الذين اشتركوا في مواجهة الشعب في التخطيط والتنفيذ والدعاية وطمس الحقائق وإخفائها والدفاع عن جرائم النظام بمن فيهم من كان يصرخ مستبشرا بقصف دوما وغيرها بالسلاح الكيماوي ويتحدث علنا عن البراميل المقدسة …الخ ..

أسرد ماسبق للقول إن لدينا مئات الآلاف ممن ارتكب جرائم موثقة من عناصر المخابرات والجيش والميليشيات الاجرامية والمخبرين وجيش ممن غطى جرائم النظام ودافع عنه وربما يصل العدد إلى ثلاثمئة الف أو أكثر أو اقل .

يمكن إخراج نسبة محدودة من دائرة الاتهام باعتبارها كانت مجبرة على تنفيذ الأوامر , لكن القانون الدولي ومنظمات حقوق الانسان لاتعفي من يرتكب جرائم ضد الانسانية من جريمته بحجة كونه مجبرا كما يعرف أهل الاختصاص . لذا لن يكون سهلا حتى إخراج تلك النسبة من دائرة الاتهام .

والسؤال هنا : كيف يمكن محاكمة مئات الألوف محاكمة عادلة وكم سيستغرق ذلك وكم من القضاة والمحامين تتطلب تلك المهمة الشاقة ؟ هذه واحدة .

وهناك المعضلة الأكثر صعوبة في انعكاس الأحكام على شريحة واسعة من المجتمع تقدر بالملايين حين نأخذ بالاعتبار ارتباط كل ضابط وصف ضابط وعنصر من المخابرات والجيش والميليشيات .. الخ بعائلة كاملة .

ليس لدي شك في أن التفكير بحجم المشكلة أحد أهم أسباب تأخير فتح ذلك الملف ومن الضروري لجميع من يلح في لوم الحكم على تأخيره في تنفيذ العدالة الانتقالية وعي المصاعب الكبيرة التي تعترض ذلك التنفيذ .

آتي إلى الآثار الخطيرة لتأخير إطلاق العدالة الانتقالية في المقابل .

أولها وأهمها أننا أمام ملايين ارتكبت بحقها جرائم غير مسبوقة لاتماثلها سوى جرائم النازية في العصر الحديث وجرائم المغول في غزوهم المنطقة والعالم قبل ذلك وهذا ليس وصفا مجازيا على الاطلاق .

لذا فليس بعيدا أو مستغربا دراسة رد فعل العالم المتمدن على النازية بعد انهيارها إثر الحرب العالمية الثانية كمثال حي لتطبيق العدالة .

ومن ينكر الهولوكست السوري بعد كل الجرائم التي أصبحت معروفة وموثقة على نطاق العالم يستحق المحاكمة كمن ينكر جرائم النازية أو يدافع عنهم .

وطالما لم تشعر ملايين الشعب السوري التي انتهكت حياة أحبائها وكرامتهم ودمرت بيوتهم ورملت نساؤهم وهجروا من بلدهم بالملايين بإقرار العدالة فلايمكن إحلال السلام الدائم في هذه البلاد .

إن أخطر ما يواجه السوريين أن يقتنعوا أنه لاسبيل لأخذ حقهم ممن ارتكب أفظع الجرائم ضدهم سوى أن يعمدوا لأخذ حقهم بيدهم وليس بيد القانون .

ليس من قبيل التخمين القول إن انفلات الأمن هنا او هناك وأعمال القتل خارج القانون مرتبط بتلك المشاعر الثأرية .

تأخير العدالة الانتقالية يسيء لجميع مكونات المجتمع ويبقي الجميع بحالة خوف وفقدان الشعور بالامان .

هذه الحالة لايمكن أن تسمح بانتقال المجتمع السوري نحو الاستقرار وبالتالي نحو البناء وإعادة الاعمار .

أما كيف يمكن معالجة الاشكالات التي يطرحها تنفيذ العدالة الانتقالية فذلك ينبغي أن يكون موضع دراسة أفضل العقول القانونية التي تسترشد بالقانون الدولي وتجارب الأمم وتبدع الحلول المناسبة لسورية .

وللأسف الشديد ورغم وجود الكفاءات السورية القانونية لكن وضعها في الأطر الرسمية المناسبة وتكليفها بالمهام المطلوبة لم يتم السير فيه بخطى جادة حتى الآن .

نحن بحاجة ماسة لوضع تلك المهمة الصعبة جدا لكن التي لاغنى عنها على الطاولة , وطالما أن العهد الجديد مازال متلكئا في فتح ذلك الملف فلابد للسوريين الأحرار من الدفع بكل الطرق الديمقراطية نحو إنجاز تلك المهمة قبل أن يصبح الوقت متأخرا وتتجذر النتائج السلبية في المجتمع .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى