لا تنحصر مأساة السوريين المستمرة منذ ربيع عام 2011، في حدود القصف الجوي والمدفعي والصاروخي، الذي تنفذه قوات النظام والمليشيات الداعمة لها، وكذلك الطيران الروسي، كما لا تنحصر في الحصار والموت تحت التعذيب في معتقلات النظام، بل تجلّى أخيراً بُعدٌ آخر لهذه المأساة، تمثل في الألغام التي زرعتها أطراف الصراع خلال سنوات عديدة، وبدأت بحصد أرواح السوريين من عسكريين ومدنيين. ويشكل هذا البعد خطراً داهماً، وتحدياً كبيراً يواجه الشعب السوري لسنوات مقبلة. وفي أحدث تطوراته، سقوط العشرات من قادة وعناصر فصائل “الجيش الحر” سابقاً في درعا، ومن المدنيين، يوم الأربعاء الماضي، قتلى وجرحى نتيجة الألغام، خلال محاولتهم مغادرة مناطق سيطرة النظام باتجاه مناطق سيطرة المعارضة شمالي سورية.
وقال “تجمّع أحرار حوران”، يوم الخميس الماضي، إن عدداً من أبناء محافظة درعا، بينهم القيادي السابق في فصائل المعارضة رمزي محمود أبازيد، قضوا، فجر الأربعاء، نتيجة وقوعهم في حقل ألغام في الشمال السوري، خلال محاولتهم عبور مناطق النظام. وأوضح الناشط الإعلامي محمد الشلبي، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنّ أكثر من 50 شخصاً، معظمهم من أبناء محافظة درعا من عسكريين سابقين ومدنيين، حاولوا الفرار من مناطق سيطرة نظام بشار الأسد هرباً من الخدمة العسكرية الإلزامية، ومن ممارسات أجهزته الأمنية، وقعوا في حقل ألغام في منطقة براد الواقعة غرب قريتي نبل والزهراء في ريف حلب الشمالي، ما أدى إلى مقتل 7 منهم على الفور، وإصابة آخرين بجروح متفاوتة. ولفت الشلبي إلى أن 8 أشخاص تمكنوا من الوصول إلى منطقة عفرين، بينما عاد الباقون إلى مناطق سيطرة النظام التي وضعتهم قيد الاعتقال.
من جهته، أكد الائتلاف الوطني السوري في بيان “وقوع قرابة 50 من المدنيين أثناء محاولتهم الفرار من مناطق سيطرة النظام إلى مناطق المحررة بريف حلب، في حقل ألغام زرعته مليشيات النظام”، مؤكدا مقتل 7 منهم، وإصابة آخرين. وأشار “الائتلاف” إلى أن البعض “تمكن من الزحف والنجاة والوصول إلى المناطق المحررة (الشمال السوري)”، مؤكداً “وقوع عدد من أفراد المجموعة بيد مليشيات النظام، لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اللحظة”، وفق البيان.
إضافة إلى ذلك، قُتل 4 مدنيين وأصيب 5 آخرون بجروح، فجر أمس السبت، جرّاء انفجار لغم أرضي في محيط قرية التح بمنطقة خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي، والتي تسيطر عليها قوات النظام. وذكرت وكالة “سانا” الرسمية التابعة للنظام، أن لغماً أرضياً من “مخلفات المجموعات الإرهابية”، وفق تعبير الوكالة، “انفجر في ورشة تعمل في جني محصول الفستق الحلبي في تلة جعفر في محيط قرية التح التابعة لمنطقة خان شيخون بريف إدلب”، ما تسبب في مقتل وإصابة هؤلاء المدنيين، وفق الوكالة. كذلك قتل مدنيان وأصيب ثالث، أول من أمس الجمعة، نتيجة انفجار لغم في ريف إدلب شمال غربي سورية، فيما قتل عنصران من “الجيش الوطني” السوري التابع للمعارضة السورية، بانفجار لغم في ريف الحسكة، أقصى شمال شرقي البلاد.
وارتفع، خلال العامين الماضي والحالي، عدد الضحايا من مدنيين وعسكريين من مختلف أطراف الصراع في سورية نتيجة الألغام التي زرعتها هذه الأطراف في عموم الجغرافيا السورية، منذ اشتداد المواجهات العسكرية في البلاد بدءاً من عام 2012. ووثّق “المرصد السوري لحقوق الإنسان” مقتل 322 شخصاً، بينهم 65 امرأة، و99 طفلاً، نتيجة انفجار ألغام وعبوات ناسفة، منذ بداية شهر يناير/كانون الثاني 2019، مشيراً إلى أن من بين القتلى 45 شخصاً، بينهم 30 امرأة وخمسة أطفال، قتلوا خلال بحثهم وجمعهم ثمرة الكمأة التي تنمو في البادية السورية، والتي تشكل نحو نصف مساحة سورية. وكانت الأمم المتحدة قد حذرت، منتصف العام الماضي، من أن حياة أكثر من 10 ملايين سوري مهددة بالخطر بسبب وجودهم في مناطق “ملوثة بالألغام”، مطالبة أطراف النزاع في سورية بالسماح بإزالة مخلفات الحرب من المتفجرات، وضمان احترام وسلامة العاملين في المجال الإنساني، المسؤولين عن إزالة الألغام.
وأكد القيادي في فصائل المعارضة السورية، العقيد الطيار مصطفى البكور، أن النظام “هو الجهة الأكثر استخداماً للألغام في سورية”، موضحاً في حديث لـ”العربي الجديد”، أن قوات النظام “زرعت هذه الألغام بكثرة أمام نقاط تمركزها المواجهة لنقاط رباط الفصائل الثورية لحماية نقاطها من عمليات التسلل”. وأوضح أن عملية كشف الألغام “تتم بطرق عدة، منها أجهزة خاصة بالكشف والتفكيك، أو تفجير حقول الألغام بواسطة المتفجرات، أو استخدام مساحات الألغام التي تركب على الدبابات والعربات القتالية لتقوم بتفجير الألغام قبل وصول الآلية إليها”.
كما يعد تنظيم “داعش” الذي سيطر على نحو نصف مساحة سورية خلال العامين 2014 و2015 من الأطراف التي استخدمت سلاح الألغام لتحصين المدن الكبرى التي كان يسيطر عليها في شمال سورية وشرقها. وكانت فصائل المعارضة السورية والجيش التركي وجدا صعوبة بالغة في اقتحام مدينة الباب في ريف حلب الشمالي الشرقي في بدايات عام 2017، بسبب حقول الألغام التي كانت منتشرة في محيط هذه المدينة. وكذلك الحال في مدينة الرقة السورية شرقي البلاد، حيث سوّر “داعش” المدينة التي كانت أبرز معاقله في سورية، بحقول ألغام أعاقت تقدم “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، وهو ما دفع “التحالف الدولي” لمحاربة التنظيم، إلى تدمير أغلب المدينة على رؤوس قاطنيها، ما أدى إلى مقتل آلاف المدنيين الذين كانوا بمثابة دروع بشرية لدى التنظيم.
وأكدت مصادر محلية في الرقة، لـ”العربي الجديد”، أن “داعش” والنظام زرعا ألغاماً في البادية السورية التي شهدت خلال أعوام 2015 و2016 و2017 معارك ضارية بين الطرفين، لا سيما في ريفي حماة وحمص الشرقيين في قلب هذه البادية. ووصفت المصادر الألغام بـ”السلاح الفتاك الكامن” الذي يستهدف عادة المدنيين ورعاة الأغنام على أطراف البادية. وحاول “الثلاثي الضامن” في سورية (تركيا، روسيا، إيران) التعامل مع ملف الألغام من خلال جولات مسار أستانة التفاوضي، حيث اتفقت هذه الدول في الجولة الثامنة التي عقدت في 21 ديسمبر/كانون الأول 2017، على تشكيل مجموعة عمل بخصوص إزالة الألغام، لكنها بقيت حبراً على ورق.
وأوضح رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديث مع “العربي الجديد”، أن ملف الألغام في سورية “شائك لأنه من الصعب معرفة الجهات التي زرعت الألغام في مناطق الصراع، ومن ثم ليس من السهولة تحديد الجهة التي تتسبب في سقوط الضحايا”. وأشار عبد الغني إلى أن تغير خارطة السيطرة يلعب دوراً في صعوبة تحديد الطرف الذي زرع الألغام، لافتاً إلى أن الخطر الأكبر يصيب الأطفال، مبيّناً أن الشبكة تعمل مع “آلية الرصد والإبلاغ” في منظمة “اليونيسف” على هذا الموضوع. ولفت في هذا السياق إلى أن “الشبكة طالبت مراراً وتكراراً، خلال السنوات الماضية، أطراف الصراع في سورية، بتحديد مواقع الألغام والذخائر العنقودية”، مشيراً إلى مطالبتها أيضاً بتوفير معدات للجهات التي تعمل على إزالة الألغام، لا سيما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، حيث يعمل الدفاع المدني على ذلك.
وأوضح عبد الغني أن “إزالة هذا الخطر يحتاج إلى تكاتف جهود كلّ الجهات المعنية وليس الدفاع المدني وحده”، معتبراً أن هذا الأمر (الألغام) يقع في مقدمة التحديات التي تواجه السوريين خلال سنوات طويلة مقبلة، بسبب غياب الخرائط التي توضح مواقع هذه الألغام، والتي تعد قنابل موقوتة تهدد أجيالاً مقبلة. وأشار إلى أن معالجة ملف الألغام والذخائر العنقودية، يبدأ من معرفة أماكنها والمناطق التي تعرضت لقصف بالذخائر خلال السنوات الماضية، وتوفير الدعم الكافي لإزالتها. وبرأيه، فإن هذا الملف معقد ويحتاج العمل عليه وقتاً طويلاً.
المصدر: العربي الجديد