تقدّم القصص المتزايدة عن المستشفيات المكتظة، وأفراد العائلات المنكوبين، وتزايد أعداد الوفيات، أدلة مقلقة على تفشّي كوفيد-19 الذي خرج عن نطاق السيطرة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. وهناك حاجة ماسة إلى استجابة رئيسية لإنقاذ الآلاف من الأرواح – غير أن الحكومة السورية اختارت إخفاء الأزمة بدلاً من مواجهتها بإجراءات جادة. وحتى 4 آب/أغسطس، أبلغت وزارة الصحة السورية عن 892 حالة مؤكدة فقط و46 حالة وفاة، وهو عدد أقل بكثير من تقديرات العديد من العاملين في مجال الرعاية الصحية على الأرض. ومن المستحيل معرفة الأرقام الفعلية بسبب النقص الحاد في الفحوصات؛ وحتى 24 تموز/يوليو، أبلغت وزارة الصحة عن إجراء 12,416 فحصاً فقط، وهو واحد من أدنى معدلات الفحص مقارنة بنصيب الفرد في العالم.
وفي مواجهة هذه الأزمة، أشارت تقارير أن الحكومة السورية طلبت من الأطباء والضحايا والصحفيين التزام الصمت. وفي إحدى المقابلات، قال طبيب لمحطة NPR: “هناك تحذيرات مستمرة للأطباء الذين يتحدثون عن هذه القضية… نحن نشعر بالخوف طوال الوقت” مشيراً إلى خضوع المستشفيات للمراقبة من قبل ضباط المخابرات. وفي الوقت نفسه، يُقال إن صحفياً في وسيلة إعلامية مملوكة للدولة مُنع من الإبلاغ عن مئات الوفيات المرتبطة بكوفيد والتي وقعت في غضون أسبوع واحد فقط.
وفي مقابل هذا التعتيم الإعلامي، أجرى المركز السوري للعدالة والمساءلة مقابلات مع العديد من الدمشقيين الذين أصيب أقرباؤهم بالفيروس لإلقاء الضوء على الوضع داخل المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. وتؤكد تجاربهم جميعاً الروايات الحالية عن وجود تفشّ كبير وأزمة صحة عامة – وهي أزمة تفاقمت بشكل كبير بسبب إهمال الحكومة المتعمّد.
“كان مثل أفلام الرعب”
وصف جميع من تمت مقابلتهم المشافي في جميع أنحاء دمشق بأنها مكتظة وفي حالة من الفوضى، وشبّه أحدهم المشاهد بتلك الموجودة في أفلام الخيال العلمي أو أفلام الرعب. وأشار شخص تمت مقابلته إلى أنه رأى العديد من المرضى مستلقين في ممرات المستشفى دون رعاية، وكان العديد من الأشخاص يسقطون على الأرض أثناء الانتظار في الممرات. ولم يكن هناك تباعد أو أي إجراءات صحية ملحوظة لوقف انتشار المرض.
قالت امرأة قابلها المركز السوري للعدالة والمساءلة إن عمتها نُقلت في سيارة إسعاف إلى مشفى المواساة بعد أن عانت من أعراض كوفيد-19 في بداية آب/أغسطس. وهناك، أُبلغت عائلتها أن المشفى المكتظ لا يتوفر به أي أجهزة تنفس اصطناعي متاحة (منفسات طبية). وحاولت عائلتها تأمين جهاز تنفس اصطناعي من خارج المشفى بشتّى الطرق، ولكن في الصباح، ماتت الضحية بسبب نقص الرعاية الطبية اللازمة.
كما توفيت قريبة شخص آخر تمت مقابلته في الأسبوع نفسه بسبب نقص الرعاية الطبية. وكانت الضحية تعاني من أعراض حادة في الجهاز التنفسي ولكن عائلتها لم تتمكن من العثور لها على غرفة عناية مركّزة متاحة بعد البحث في عدة مشافي في دمشق. وبعد وفاة الضحية، قيل للعائلة إنه يتعين إجراء فحص كوفيد-19 للجثة إذا كانوا يرغبون في دفنها خارج مقبرة نجها، حيث يجب دفن جميع ضحايا كوفيد. ولأن الفحص يتطلب عدة أيام، قرّر أقاربها إيداعها في مقبرة نجها حتى يتسنّى دفن جثتها في أسرع وقت ممكن وفقاً للعرف الإسلامي. إلا أنه نتيجة لأعداد الوفيات الكبيرة، لم يكن هناك أي موظفة متوفرة من مكتب الدفن في دمشق. وأُجبر أقارب الضحية تجهيز الضحية للدفن بأنفسهم دون حماية من عدوى محتملة بكوفيد-19 وأمراض أخرى.
أفادت تقارير بأن بعض أقارب الموتى دفعوا ثلاثة ملايين ليرة سورية (حوالي 1,000 دولار أمريكي) من أجل تزوير تقارير الوفاة وكتابة ما يفيد بأن المرضى لم يموتوا نتيجة الإصابة بكوفيد-19، حتى يتمكنوا من دفن أقاربهم في مقابر العائلة وليس في مقبرة نجها.
أفاد العديد من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أن أقاربهم المصابين لم يتم استقبالهم في المستشفيات على الرغم من ظهور أعراض كوفيد-19 عليهم. حيث ذكر رجل يعاني والداه حالياً من أعراض تشبه أعراض الإصابة بكوفيد أنه لا يوجد مشفى في دمشق، سواء خاص أو عام، يستقبلهما على الرغم من تقدّم والدته في السن وسوء حالتها.
أدى نقص الخدمات للسوريين العاديين إلى ترك انطباع لدى الكثيرين بأن الحكومة تعطي الأولوية للنخبة من خلال تخصيص أماكن في المستشفيات لعلاج الضباط وكبار المسؤولين في دمشق. وذكر الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أن المستشفيات طلبت منهم البقاء في المنزل ومحاولة مكافحة المرض بوسائل بدائية، أو العثور على ممرضات لتقديم الرعاية المنزلية.
العمل كالمعتاد
إن القصص التي سجّلها المركز السوري للعدالة والمساءلة ما هي إلا قصص قليلة من بين عدد لا يحصى من القصص المماثلة التي يتناقلها السوريون. ولكن على الرغم من المعاناة المتزايدة، ظلت استجابة الحكومة صامتة بشكل يُرثى له. وفي آب/أغسطس، أعادت الحكومة تطبيق بعض إجراءات الإغلاق، بما في ذلك حظر صلاة عيد الأضحى، وصلاة الجنازة، وإغلاق بيوت العزاء وصالات الأعراس. ومع ذلك، فقد تجنّبت فرض تدابير حاسمة مثل حظر التجول أو أوامر البقاء في المنزل، بينما يبدو أن الجهود المبذولة لتعقّب المخالطين تم التخلي عنها تماماً. والأسوأ من ذلك، أن الحكومة تواصل تنفيذ سياسات غير فعالة، بما في ذلك الرسوم الباهظة للفحص (يبلغ رسم إجراء فحص “تفاعل البوليميراز المتسلسل” أو ما يُعرف باسم “فحص PCR” 100 دولار)، وقد أنشأت مراكز حجر صحي ذات ظروف مزرية تساعد على الانتشار الداخلي.
وفي غضون ذلك، وفي تسجيل صوتي تم تسريبه، ظهر أحد الأطباء العاملين في مشفى المواساة مذعناً للأزمة، مدّعياً أن معظم الحالات ليست “خطيرة”. وفي إشارة إلى طاقمه الطبي، قال: “إن الجميع سيصابون بالفيروس لأنه لا أحد لديه مناعة. لا مفر من هذا الفيروس”.
وإن استعداد الحكومة لفرض رقابة على المعلومات وترك المواطنين يعانون لا ينبغي أن يكون أمراً مفاجئاً. بل هو استمرار لسياسات دمشق في مجال الرعاية الصحية طيلة 10 سنوات من النزاع. فهذه هي نفس الحكومة التي قصفت بشكل مقصود مئات المشافي وقتلت عدداً لا يُحصى من الأطباء في جميع أنحاء البلد؛ وهي نفس الحكومة التي أهملت لفترة طويلة البنى التحتية للصحة العامة؛ وهي نفس الحكومة التي حاولت في السابق إخفاء تفشيّ شلل الأطفال قبل تعمّدها حجب اللقاحات ضد شلل الأطفال في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
وسيكون من الحماقة توقّع أن تغيّر الحكومة مسار استجابتها الكارثية في مواجهة المزيد من المعاناة. وسيُعتبر المجتمع الدولي متواطئاً إذا استمر ببساطة في قبول الأرقام الكاذبة التي تقدّمها الحكومة، على الرغم من الأدلة الدامغة التي تبرهن على عكس ذلك. ويجب على منظمة الصحة العالمية، التي غضّت الطرف حتى الآن عن انتقادات الجمهور لاستجابة الحكومة، أن تفعل المزيد للضغط على الحكومة للكشف عن النطاق الكامل للمشكلة. وعندها فقط يمكن للمجتمع الدولي والسوريين أنفسهم تبنّي استجابة فعالة. ودون وجود ضغط متزايد من المجتمع الدولي، سيعاني ويموت عدد لا يحصى من السوريين بصمت بسبب هذا المرض الخبيث.
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على info@syriaaccountability.org. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.
المصدر: المركز السوري للعدالة والمساءلة