امتحان القضاء والسياسة.. سطور من التاريخ السياسي التركي

عدي محمد الضاهر

شهدت الساحة السياسية التركية تطوراً مفصلياً باعتقال أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، في 18 آذار/مارس 2025، في خطوة أثارت تساؤلات واسعة حول مستقبل السياسة التركية والصراع بين المعارضة والحزب الحاكم. التهم الموجهة إلى أكرم تتعلق بالفساد وسوء استغلال السلطة، وقد يرى البعض من أنصار حزب الشعب الجمهوري تشابهاً مع حادثة سجن رجب طيب أردوغان في أواخر تسعينيات القرن الماضي التي صدّرت أردوغان كرئيس للجمهورية التركية وأن هذا الاعتقال من شأنه أن يصدّر إمام أوغلو أيضاً إلى الرئاسة، ويراها آخرون من أنصار حزب العدالة والتنمية أنها انتقام إلهي عن الكثير من الظلم التاريخيّ الذي تعرض له رموز التيار المحافظ في تركيا أمثال عدنان مندريس، جلال باير أو حتى أربكان وأردوغان على يد أتباع التيار العلماني، ولكن واقعة اعتقال أمام أوغلو تختلف جذرياً عن غيرها ما يجعل المقارنة بينهما غير دقيقة. وفي ظل هذا التطور، يحتدم الصراع داخل حزب الشعب الجمهوري (CHP)، بينما يواصل حزب العدالة والتنمية الحاكم (AKP) البحث عن استراتيجيات لضمان بقاء أردوغان في السلطة، بما في ذلك إمكانية التوجه نحو انتخابات مبكرة.

المسيرة السياسية لأكرم إمام أوغلو وصعوده في حزب الشعب الجمهوري

وُلد أكرم إمام أوغلو في 4 يونيو 1970 في طرابزون، ونشأ في بيئة محافظة، لكنه انخرط في الحياة السياسية عبر بوابة حزب الشعب الجمهوري ذي التوجه العلماني. دخل الحزب عام 2008، وبعد خمس سنوات أصبح رئيس فرع الحزب في منطقة بيليك دوزو بإسطنبول، حيث بدأ يلفت الأنظار بقدراته الإدارية وشعبيته المتزايدة. في انتخابات 2014، فاز برئاسة بلدية بيليك دوزو، ليصبح شخصية مؤثرة داخل حزب الشعب الجمهوري. ورغم أن الحزب كان يعاني من ضعف في الأداء الانتخابي، إلا أن فوزه في تلك الانتخابات اعتُبر إنجازاً هاماً. لكن المحطة الفارقة في مسيرته كانت انتخابات بلدية إسطنبول في 2019، حيث نجح في هزيمة مرشح الحزب الحاكم بن علي يلدريم، أحد أبرز المقربين من أردوغان. أُلغي فوزه في البداية، لكن مع إعادة الانتخابات فاز بفارق أكبر، مما جعله رمزاً لمعارضة قوية ضد أردوغان وحزبه العدالة والتنمية.

أردوغان سُجن بتهمة “التحريض على الكراهية” بسبب قصيدة تحمل معاني إسلامية كان قد ألقاها، ما جعله يظهر كضحية لنظام علماني قمعي يكتم الأصوات التي تعارضه، بينما إمام أوغلو فهو متهم بقضايا  فساد مالي، وهي قضايا أكثر ارتباطاً بالإدارة العامة، ما يضعه في موقف أكثر تعقيداً من الناحية القانونية

اعتقال إمام أوغلو.. تهم فساد أم استهداف سياسي؟

جاء اعتقال أكرم إمام أوغلو بعد تحقيقات مكثفة في قضايا تتعلق بتلاعب مالي، مناقصات غير قانونية، وأخرى تهم فساد في مشاريع نفذتها بلدية إسطنبول خلال فترة رئاسته، الحكومة تؤكد أن هذه التهم جنائية بحتة، لكن المعارضة ترى أن الاعتقال خطوة سياسية تهدف إلى القضاء على أحد أقوى منافسي أردوغان في الانتخابات المقبلة مما أدى إلى انقسام الشارع ببن مؤيد ومعارض لرواية الحكومة والحزب الجمهوري.

المقارنة بين اعتقال إمام أوغلو وسجن أردوغان في التسعينيات

كثيرون يحاولون رسم تشابه بين اعتقال إمام أوغلو وسجن أردوغان عام 1998، عندما كان رئيساً لبلدية إسطنبول. لكن هناك فرق جوهري بين القضيتين.

أردوغان سُجن بتهمة “التحريض على الكراهية” بسبب قصيدة  تحمل معاني إسلامية كان قد ألقاها، ما جعله يظهر كضحية لنظام علماني قمعي يكتم الأصوات التي تعارضه، بينما إمام أوغلو فهو متهم بقضايا فساد مالي، وهي قضايا أكثر ارتباطاً بالإدارة العامة، ما يضعه في موقف أكثر تعقيداً من الناحية القانونية، أما على صعيد التداعيات السياسية ، سجن أردوغان ساعده في تعزيز شعبيته، حيث اعتبره أنصاره سجين رأي، ما ساهم في صعوده السياسي لاحقاً في حين أن اعتقال إمام أوغلو قد يؤدي إلى تضامن شعبي محدود ضمن أروقة بعض الأحزاب المعارضة الأخرى التي تريد أن تتصيد أصواتاً من هنا وهناك، في الوقت نفسه قد يؤدي هذا الاعتقال إلى تمزيق حزب الشعب الجمهوري ويضعف من شعبيته إذا لم يتم التعامل مع الأمر بحيادية واحترام للقانون.

“قضية الكلب” الشهيرة ضد الرئيس جلال باير وعدنان مندرس 1960

بعد الانقلاب العسكري في 1960 الذي أطاح بحكومة عدنان مندريس، تم اتخاذ إجراءات قانونية ضد العديد من الشخصيات البارزة في الحكومة، بما في ذلك جلال باير، الذي كان رئيس الجمهورية في تلك الفترة. من ضمن القضايا التي وجهت ضد جلال باير كانت “قضية الكلب”، بعد أن قام ببيع كلب كان قد قُدم له كهدية من الملك الأفغاني في إحدى الزيارات الرسمية، وتم على أثرها اتهام باير بسوء استخدام السلطة والفساد وتم الحكم على جلال باير بالإعدام ومن ثم تم تخفيفها إلى المؤبد، لم ترتفع حينها الأصوات بل كان الجميع من المحسوبين على التيار العلماني من الجيش وحزب الشعب الجمهوري ينادي باحترام الدستور ومقام الدولة.

في كلتا الحالتين (جلال باير وأكرم إمام أوغلو)، تم استخدام القوانين سواء في حالة باير في الخمسينيات أو إمام أوغلو في وقتنا الحاضر، نجد أن الاتهامات التي توجه ضد هؤلاء السياسيين في معظم الأحيان ليست فقط قضايا قانونية بحتة، بل هي قضايا تستخدم لإضعاف سياسي حيث يكون هناك حالة من الاستقطاب السياسي يتم عبر هكذا محاكمات، فالحكم العسكري بتياره العلماني تدخل وتسلط لعقود طويلة في السياسة التركية، وكان يقمع كل الأحزاب الإسلامية أو المحافظة ويبعدهم عن الحكم بتهم قانونية جاهزة نوعاً ما، بينما في قضية أكرم أوغلو تتضح معالم تهم الفساد بشكل واضح وهذا ما يعطي الفرصة لكل أتباع الأحزاب المحافظة وقياداتها، أن تنادي الأحزاب السياسية المعارضة وأتباعها إلى احترام القانون وقبول ما يصدر عن القضاء كما حصل في تجارب تاريخيّة سابقة.

حزب العدالة والتنمية يريد أن ينتهز فرصة اعتقال إمام أوغلو، ومن المتوقع أن يبدأ في الترويج لاحتمالية إجراء انتخابات مبكرة.

الصراع الداخلي في حزب الشعب الجمهوري بعد اعتقال إمام أوغلو

بعد اعتقال إمام أوغلو، واجه حزب الشعب الجمهوري أزمة داخلية كبيرة. هناك أصوات داخل الحزب تدعو إلى دعم إمام أوغلو كمرشح رئاسي حتى من داخل السجن، بشكل عام الانقسامات داخل الحزب ليست جديدة، لكنها تفاقمت بعد خسارة الانتخابات الرئاسية 2023 أمام أردوغان. زعيم الحزب آنذاك كمال كليجدار أوغلو، تعرض لانتقادات حادة بسبب استراتيجيته الفاشلة، مما أدى إلى صعود تيار جديد يطالب بتغيير القيادة. بعد فوز إمام أوغلو ببلدية إسطنبول، كان يُنظر إليه كزعيم طبيعي للمعارضة، لكن اعتقاله الآن يترك الحزب في مأزق سياسي وقد يدفعه الآن إلى الاستعانة بكمال كليجدار أوغلو مرة جديدة خصوصاً إذا تم إثبات تهم الرشوة والفساد الموجهة لأسماء بارزة في حزب الشعب الجمهوري والتي كانت في صف أكرم إمام أوغلو ورئيس الحزب أوزغور أوزيل.

استراتيجية حزب العدالة والتنمية وأهداف البقاء في السلطة

حزب العدالة والتنمية يريد أن ينتهز فرصة اعتقال إمام أوغلو، ومن المتوقع أن يبدأ في الترويج لاحتمالية إجراء انتخابات مبكرة، في محاولة لاستغلال ضعف المعارضة وترسيخ سيطرة أردوغان قبل أن تتمكن المعارضة من إعادة تنظيم صفوفها، الانتخابات المبكرة تتيح دستورياً أن يبقى أردوغان في الحكم في حالة فوزه.

هل اعتقال إمام أوغلو نهاية لمستقبله السياسي؟

على الرغم من أن اعتقال أكرم إمام أوغلو يشكل ضربة قوية للمعارضة، إلا أنه قد يتحول إلى نقطة قوة إذا تمكن من تبرئة نفسه وقام في استثمار هذا الوضع لصالحه.

في ظل التطورات الحالية، تبقى تركيا أمام مرحلة حاسمة في تاريخها السياسي، حيث سيتحدد مستقبل الحكم بين استمرار أردوغان وحزبه في السلطة أو بروز قوى جديدة قادرة على منافستهم.

المصدر: تلفزيون سوريا

زر الذهاب إلى الأعلى