
في ذروة العمليات العسكرية التي قامت بها السلطة الجديدة في مدن الساحل السوري وبلداته وقراه، في 6 مارس/ آذار الجاري، والانتشار الواسع النطاق لأخبار ارتكاب مذابح بحقّ المدنيين في المنطقة على خلفية المعارك التي خاضها أفراد وزارة الدفاع السورية وفصائل موالية لها في مواجهة فلول النظام الساقط الذين قيل إنهم حاولوا الانقلاب على السلطة، في ذروة تلك العمليات، وقع الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، اتفاقاً لانضواء هذه القوات في مؤسّسات الدولة العسكرية. وإذ غيّب إعلان هذا الاتفاق والاحتفاء الرسمي والفرح الشعبي اللذيْن رافقاه الخوض في أخبار المذابح داخلياً وخارجياً يوماً واحداً، إلا أن وقعها على أبناء البلاد، خصوصاً أهل الضحايا، وعلى الإعلام العالمي، ظلّ مستمرّاً بثقله، وربما قد تظهر له ذيول وتداعيات، تتمحور حول الخطأ الذي ارتكبته السلطة في طريقة التعاطي مع هذا الحادث، وتأثيره على جهودها في رفع العقوبات وإدارة البلاد كما تشتهي. وبالتالي، على مستقبل هذه البلاد.
لا شك في أن جرحاً قد فُتح في مناطق الساحل السوري، تبين أنه لم يُصب الأقليّة العلوية التي وقعت المذابح بحقّ أبنائها فحسب، بل أصاب أبناء المكوّنات المذهبية الأخرى، وهو ما يلاحظه المراقب من خلال صفحات وسائل التوصل الاجتماعي، ومن التواصل المباشر مع أصدقاء وجيران، أو تقارير وسائل الإعلام وناشطين، فخلال هذه العملية التي صُدم أبناء المنطقة بحجم العنف الذي رافقها، والذي أجبر الجميع على ملازمة منازلهم، أو الهيام على وجوههم في الوديان السحيقة المخيفة وانتظار المجهول الذي كان الموت أبرز وجوهه، خلالها تضرّر كل أبناء المنطقة، وقد سُجل سقوط ضحايا كثيرين من أبناء الطائفة السنية، ممن استُهدفوا مباشرة في منازلهم، أو في أثناء محاولاتهم نجدة جيرانهم العلويين وإيواءهم في منازلهم لتجنيبهم الموت المُحقّق.
لذلك، يُظهر هذا الجرح الذي فُتح، والذي لا يُعرف متى يمكن أن يندمل إذا ما تأخّرت عمليات جبر الضرر، أن السلطة الجديدة بمجملها وقعت في الكمائن الذي نصبها فلول الأسد لأفرادها نتيجة الإدارة الخاطئة لهذا الملف وملفات أخرى تتعلق بواقع البلاد. وقد كان من أهم سمات هذا الكمين أنه جاء كاشفاً للسلطة وسياساتها، ومبيّناً الخلل بين الصورة التي أرادت الظهور فيها والواقع والممارسات على الأرض.
ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات وفيديوهات تحرّض لقتل أبناء الطائفة العلوية، أطلقها أناسٌ بأسمائهم الصريحة ويقيمون داخل البلاد
أول هذه الكمائن قضية السلاح المتفلت، إذ تبيّن أن الكلام عن سحب السلاح من كل من هو خارج إطار السلطة غير دقيق، وأظهرت ذلك الفزعة التي جرى التداول بأخبارها قبل حدوث المجازر، فبينما كانت عمليات سحب الأسلحة من أيادي أبناء الساحل دقيقة، والتزم بها جميع من كان لديه سلاح ما عدا الفلول، ظهر السلاح في أيادي أناس مدنيين تجمّعوا في إطار التحشيد للتوجه إلى الساحل للمشاركة بالعمليات العسكرية، وهو ما لفت إليه كثيرون، وتأكد حين لم تتعرّض الفصائل لأي مقاومة بالسلاح من الأهالي، في عديدٍ من القرى التي كان سكانها قد سلّموا أسلحتم، وأجروا تسوياتٍ مع السلطة الجديدة. وهذا سيؤدي إلى حالة من عدم الثقة في المستقبل بين السطلة وسكان هذه المناطق. كذلك سيدفع مناطق أخرى، خصوصاً السويداء، إلى رفض تسليم أسلحتها بعد ما راقبت الانتهاكات في الساحل، وبالتالي، بقاء هذا الملف معلقاً ومعيقاً جهود توحيد البلاد.
إضافة إلى ملف السلاح المتفلت، هنالك الكمين الآخر، وهو ملف حل الفصائل الذي تبيّن أنه لم يتم على الشكل الذي جرى الكلام حوله، فمن خلال إلقاء اللوم على الذين لبّوا نداء الفزعة في ارتكاب المجازر، ألقيَ اللوم أيضاً على فصيلين آخرين، وهو ما يناقض الكلام عن حلّ الفصائل وانضوائها جميعاً في الجيش الجديد. قد يقود هذا الأمر، في مراحل متقدّمة، إلى إبقاء العقوبات على سورية، وإعادة العقوبات التي رُفعت، وربما تشديدها، إذا ما تفاعل ملف المجازر ووجد طريقَه إلى المنظمّات الدولية، وشاركت لجان دولية في التحقيق فيها. وهي ورطةٌ لم تحسِب السلطة حسابها، حين سمحت لمجموعاتٍ من خارج المؤسّسة العسكرية بالمشاركة في المعارك مع الفلول، وبالتالي، استغلال الفرصة لتنفيذ انتقامات، وهذا يصبّ في مصلحة الفلول ويخدم سرديتهم عن دوافعهم لمحاربة السلطة.
وهنالك أمر يتعلق بالدولة السورية، وبهيبتها وبقدرتها على فرض القرارات التي تتخذها، فمما نقل عن الحكومة السورية إصدارها قراراتٍ لا يمكنك التثبت منها، بسبب عدم وجود صحيفة رسمية تُنشر فيها القرارات، أو قناة تلفزيونية تتحدّث عنها. ومنها قرار نية الحكومة محاسبة كل من يستخدم عبارات طائفية أو يحرّض طائفياً، غير أن الواقع كان غير ذلك، إذ ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات وفيديوهات تحرّض لقتل أبناء الطائفة العلوية، أطلقها أناسٌ بأسمائهم الصريحة ويقيمون داخل البلاد، وكان لها دور في التجييش وزيادة الأعمال الانتقامية، وحين أعلنت الحكومة محاسبة بعضهم، واصل كثيرون شن حملات التحريض.
الإحباط كان السائد، بعدما وجد كثيرون أن الثورة التي ضحّوا من أجل انتصارها صمَّت آذانها عن سماع أصواتهم
ويبقى الأكثر خطراً، وربما يعد الكمين الأكبر، وهو التعامل مع تمرّد الفلول ومواجهته عن طريق مبدأ الفزعة، وهو أمر يضرب مبدأ الدولة التي يجب أن يكون من مسؤولياتها حماية أبنائها من خطر الفلول وغيرهم. كما أن مراقبة الفلول وتتبّعهم ومنعهم من تنفيذ مخطّطاتهم تندرج ضمن هذه المسؤولية، فكثيرون من هؤلاء أجروا تسويات، لكنهم لم يُقدَّموا للمحاكمة بتهمة الضلوع في ارتكاب انتهاكات خلال حكم الرئيس المخلوع. وربما هذا ما جعل السلطة الجديدة في ورطةٍ، حين فوجئت بالتمرّد، ولذلك جعلها تجرّب كل السبل لمواجهته، ومنها ترك مُواليها يدعون إلى نصرة السلطة بالفزعة. لكن، وعلى خلفية هذه الفزعة، ساهمت الدولة في إحداث شرخ مجتمعي في بلادٍ كانت تسير على طريق التعافي، بعد التخلص من نظام الأسد الذي انتهج تعزيز الطائفية ونشر الكراهية بين مكوّنات المجتمع الدينية والمذهبية والسياسية.
من الضروري للسلطة الجديدة عدم مراكمة الأخطاء، بل اعتماد مبدأ التشاركية للاستفادة من جهد الجميع لإدارة الملفات الصعبة التي تواجه سورية. لكن الإحباط كان هو السائد، بعدما وجد كثيرون أن الثورة التي ضحّوا من أجل انتصارها صمَّت آذانها عن سماع أصواتهم. أصوات كانت قد خرجت مبكّراً تنصح السلطة بفعل ما يمكنها لتغيير الواقع المعيشي، لا أن تساهم في انحداره، وتجعل الذين باتوا على حافّة المجاعة، نتيجة فصلهم من العمل أو تأخير رواتبهم شهوراً وزيادة أسعار الخبز وبقية الأساسيات، لقمةً سائغة لمن يريد العبث بالملفّات التي تتراكم وتزداد صعوبة حلها.
المصدر: العربي الجديد