مخرجات مؤتمر الحوار الوطني كأساس للإعلان الدستوري المؤقت في سوريا

محمد صبرا

يتفق فقهاء القانون وفلاسفته على أن الظاهرة القانونية هي الظاهرة الأكثر عقلانية التي تميز الثقافة الإنسانية بشكل عام، فالظاهرة القانونية ظاهرة مصطنعة بشكل قصدي وبنائي لإعادة ترتيب الانتظام العام للأفراد داخل جماعة، ومن ثم تحويل هذه الجماعة لبناء مجتمعي متميز تحكمه جملة من المبادئ المتواضع عليها والمتفق على معياريتها التوجيهية

من هنا تأتي وجاهة فكرة أن القانون هو ابن الواقع، ينتج عنه وفي نفس الوقت هو الميكانيزم المحرك له والقادر على خلق واقع جديد، وبالتالي فإن أي عمل يهدف لخلق ظاهرة قانونية يجب أن يرتبط بمدى ملائمة هذه الظاهرة القانونية للواقع وأيضاً قدرتها على تجاوز هذا الواقع لخلق ظروف تسهم في تحقيق البناء المجتمعي الجديد، بشكل قصدي وعقلاني ضمن معايير المشروعية والملائمة.

فالحكم على النص القانوني لا يكون من خلال علائقه واشتراطاته الداخلية باعتباره بناء منفصلا عن الوقائع على الأرض، بل الحكم عليه يكون من خلال بحث مدى ملائمته من ناحية، ومن ناحية أخرى الاشتراطات المُحمّل بها والتي تسمح بتجاوز الوقائع المنبثق عنها لإعادة بناء وقائع جديدة.

من خلال هذه المقدمة الضرورية يمكن أن نحدد ماهي الاشتراطات اللازمة لوضع إعلان دستوري مؤقت في سوريا خلال المرحلة الانتقالية.

الظروف وتهتك مفهوم الدولة: 

منذ بداية عام 2013 بدأت ملامح تهتك الدولة تظهر في المجتمع السوري، ففي المناطق التي خرجت على سيطرة النظام رأينا انهيارا شاملا لكل بنى الدولة الإدارية والقانونية، وظهرت تشكيلات جديدة حلت محل الدولة وقامت ببعض وظائفها، وفي المناطق التي بقيت تحت سيطرة النظام رأينا أيضا انهيارا على المستوى الحقيقي في مفهوم الدولة لصالح ظهور ميليشيات شاركت الدولة في كثير من مهامها واكتسبت بعض ملامحها.

الحريات والحقوق لا يمكن أن تنشأ وتنمو إلا داخل وسط قانوني، والوسط القانوني لا يمكن أن ينشأ إلا من خلال مجموعة من الحقوق تمنح للأفراد تمكنهم من المساهمة الفعالة في خلق هذا الوسط القانوني

إذاً خلال الأعوام الاثني عشر الماضية، انهارت الدولة كمفهوم، وكمجموعة من البنى الإدارية والضوابط القانونية، المسيرّة للاجتماع السياسي للسوريين، وبالتالي ورثت السلطة الانتقالية التي بدأت مهام عملها في 8/ديسمبر 2024، ركام مؤسسات وأشلاء قوانين، ومرافق عامة مدمرة على المستوى المادي وعلى المستويين الإداري والقانوني.

إن هذا الواقع يفرض على اللجنة التي ستقوم بوضع مسودة الإعلان الدستوري مهمة أساسية وهي إعادة توطين مفهوم الدولة بالدرجة الاولى، إضافة لتطوير الوسط القانوني الذي تعمل فيه الحقوق والواجبات، وهذه الثنائية يجب فهمها بعمق كبير، فالحريات والحقوق لا يمكن أن تنشأ وتنمو إلا داخل وسط قانوني، والوسط القانوني لا يمكن أن ينشأ إلا من خلال مجموعة من الحقوق تمنح للأفراد تمكنهم من المساهمة الفعالة في خلق هذا الوسط القانوني، هذه الثنائية أو الإشكالية بشكل أدق يجب أن ندركها جيدا في المرحلة الانتقالية، فالأفراد بوصفهم أعضاء في الأمة، هم الذين يصنعون الوسط القانوني، وفق أدوات الحرية السياسية والحقوق التي يتمتعون بها، لكن هذه الحقوق والحريات لا يمكن أن تنشأ إلا ضمن وسط قانوني منضبط، وهنا التحدي الكبير برأيي هو كيفية إدارة هذا التناقض وحل إشكاليته الأساسية، وبالتالي تصبح عملية وضع الإعلان الدستوري هي اللبنة الأساسية في إنتاج الوسط القانوني الذي تتحرك فيه الحريات والحقوق، وهو أيضا الإطار العام الذي سيمكن الأفراد من وضع الضوابط اللازمة والمؤسسات الضرورية لنيلهم هذه الحقوق والحريات، انطلاقاً من هذه المبادئ الأساسية والأولية، يمكن تحديد أهداف الإعلان الدستوري المؤقت باعتبار هذه الأهداف ليست مجرد غايات يجب الوصول لها، وإنما باعتبارها أساس بناء الإعلان الدستوري، لأنه كما قلنا سابقاً هو الذي سيمثل الحلول الأولية للإشكالات والوقائع التي تواجهنا، وهو أيضا الذي يفترض به أن يؤسس لوسط قانوني يمكن السوريين كأفراد من إعادة بناء اجتماعهم السياسي عبر إنتاج عقد اجتماعي جديد، يلبي تطلعاتهم في المرحلة الدائمة.

طبيعة المرحلة الانتقالية والسلطات العامة فيها: 

يمكن ببساطة تحديد المقاصد العامة للدولة في شكلها البسيط، في تحقيق الأهداف الثلاثة الكلية وهي: الأمن العام – الصحة العامة – السكينة العامة، هذه الأهداف الثلاثة يتفرع عن كل منها عشرات الفروع، وفي المرحلة الانتقالية نجد الحقائق التالية:

  • وجود تشكيلات موازية للدولة تملك وسائل القهر والجبر وتشارك الدولة في امتلاك وسائل العنف، وحسناً فعل البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني عندما نصّ على اعتبار هذه الجماعات، خارجة عن القانون في الفقرة 3 من البيان الختامي.
  • غياب المرافق العامة التي تقوم على تقديم الخدمات العامة ووجود تشكيلات أهلية تقوم ببعض مهام المرافق العامة، وهذا يتطلب إصلاح المؤسسات العامة وإعادة هيكلتها، وهذا ما نصّ عليه البيان الختامي في الفقرة 15 منه.
  • غياب الآليات التي تضبط حركة الصراع في المجتمع سواء بين الأفراد أو بين الأفراد والمؤسسات ” القضاء وقوة إنفاذ القانون “، وترافق ذلك مع ظهور تشكيلات أخرى تقوم بهذه المهمة ” الهيئات الشرعية، أو الأهلية في بعض المناطق، ولذلك يجب أن يركز الإعلان على نصوص واضحة فيما يتعلق بالقضاء، وقد نصّ البيان الختامي على هذا الأمر بشكل واضح في الفقرة 10 منه.
  • وجود تشكيلات إدارية محلية لا ترتبط بمركزية الدولة، ولا تعمل بتوافق مع المنظومة القانونية لها، سواء إدارات ذاتية في شرقي سوريا، وهيئات خدمية وإدارية ومجلس شورى محلية في بعض مناطق شمال غربي سوريا، وهذه التشكيلات جميعاً، يجب أن تُحلّ في هذه المرحلة، لأنها تمنع عمليا من إعادة توطين مفهوم الدولة، ووحدة مؤسساتها، وهذا شرط أساسي لحماية وحدة
  • التراب الوطني، وهذه النقطة رغم أهميتها غابت عن البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني، ويبدو أنها لم تناقش أصلاً لأسباب كثيرة.
  • انهيار مفهوم الحريات والحقوق المؤطرة قانوناً، وبالتالي لا بد من إعادة تبيئة هذه الحريات وإعطائها الحركية القانونية اللازمة لتستطيع أن تظهر بشكل عملي في المرحلة الانتقالية، وقد أشار البيان الختامي للمؤتمر الوطني إلى هذه النقطة في الفقرتين 7 و8 منه، لكني أعيب على البيان أنه لم يتحدث بشكل واضح عن موضوع حرية إنشاء الجماعات السياسية باعتبارها تشكل أحد أركان الوسط القانوني الذي يتم امتصاص الصراعات في المجتمع من خلال تدافعها، كجماعات سياسية، لأن البديل عن ذلك هو انقسام المجتمع لجماعات أهلية عصبوية على أسس إثنية أو دينية أو مناطقية، وهذه الجماعات بطبيعتها تقف عائقاً أمام توطين مفهوم الدولة، ومفهوم المواطنية كعقد سياسي حر بين الأفراد وبين الدولة كتشكيل سياسي جامع لهم.

هذه الطبيعة الخاصة للظروف في الواقع السوري، تجعل من السلطة الانتقالية التي تقود وتدير المرحلة الانتقالية، مؤسسة حكم ذات طبيعة استثنائية، وبالتالي فإن وضع الإعلان الدستوري يجب أن يأخذ هذه الطبيعة بعين الاعتبار ويوليها الأهمية القصوى، وفي هذا الشأن يجب الخروج من التفكير التقليدي في إطار القانون الدستوري القائم على تحديد النماذج المعروفة في الأنظمة الدستورية، فنظام الحكم في المرحلة الانتقالية لن يكون نظام حكم برلماني أو رئاسي أو نظام الجمعية الوطنية، بل سيكون نظام حكم استثنائي يستمد طبيعته ومحدداته من خلال الظروف الاستثنائية التي تمر فيها سوريا، وذلك بالاسترشاد بنظرية الظروف الطارئة المعروفة جيدا في الفقه الدستوري وتطبيقاتها المختلفة، كذلك المبادئ العامة التي نتجت عنها ولا سيما مبدأ دوام الدولة ومبدأ حالة الضرورة، ويمكن الاستفادة إلى حد كبير من أعمال مجلس الدولة الفرنسي والمصري والسوري في هذا الشأن.

أهداف الإعلان الدستوري الواجب أخذها بالاعتبار:

  1. ضمان بقاء الدولة السورية والحفاظ على البنية القانونية والإدارية لها ما أمكن ذلك وبما تسمح به طبيعة المرحلة الانتقالية وإعادة توطين مفهوم الدولة.
  2. الحد من بناء مؤسسات عامة جديدة ومحاولة استثمار التنظيمات الإدارية الموجودة حاليا لاستيعاب مؤسسات المرحلة الانتقالية.
  3. ضمان قدرة السلطة الانتقالية على إدارة المرحلة الانتقالية بشكل فعال وانسيابي وتقليل فرص العطالة الذاتية للمؤسسات من خلال تداخلها أو تضارب صلاحياتها.
  4. ضمان الحد اللازم والكافي من الحقوق والحريات القادرة على إفساح المجال للسوريين للمشاركة الفعالة ببناء النظام السياسي الجديد في المرحلة التي تعقب المرحلة الانتقالية.

أبواب الإعلان الدستوري المؤقت: 

يجب أن يبتعد الإعلان الدستوري عن القضايا التي تفرض شكلا محددا للدولة السورية أو تصادر قدرة السوريين على بناء المستقبل.

ولذلك يجب أن يكون الإعلان الدستوري إطاراً تقنيا قادراً على خلق الوسط القانوني اللازم الذي تستطيع المرحلة الانتقالية من النمو فيه، والنجاح في تحقيق أهدافها، ولذلك يجب أن يكون إعلاناً مركزاً ومقتضباً ويقتصر على أبواب محددة أهمها، الحريات والحقوق، الضمانات اللازمة لممارسة هذه الحقوق والحريات خلال المرحلة الانتقالية، وأيضا السلطة الانتقالية من حيث تعريفها وولايتها الزمنية والموضوعية وسلطاتها وآليات عملها وعلاقتها بمؤسسات السلطة العامة الأخرى التي ستقوم بتشكيلها لمساعدتها على أداء مهامها، ومرجع فض النزاع بينها وبين المؤسسات القائمة أو المستحدثة ” مجلس دستوري، أو محكمة دستورية”، ويجب أن يتضمن الإعلان الدستوري باباً عن السلطة القضائية وضمانات استقلالها خلال المرحلة الانتقالية ضمن شروط وطبيعة المرحلة الانتقالية، وكذلك باباً عن الإدارة المحلية وعلاقاتها بالسلطة المركزية، ووسائل فض النزاعات بين السلطة المركزية والسلطات المحلية، وأحكام عامة تحدد كيفية نهاية المرحلة الانتقالية والعبور للمرحلة النهائية.

وعلى الرغم من تحفظاتي الكثيرة على مؤتمر الحوار الوطني شكلاً ومضموناً ما زلت أطالب بعقد مؤتمر وطني جامع دائم الانعقاد لتأسيس الدولة السورية الجديدة، كما بينت في مقالات سابقة، إلا أنني مؤمن بالقاعدة التي تقول: “مالا يدرك كلّه، لا يُترك جلّه”، ولذلك فإن كثيراً من المبادئ التي وردت في البيان الختامي للمؤتمر، يمكن اعتبارها أساساً مناسباً لأسس عامة وضرورية لكتابة الإعلان الدستوري، الذي يفترض أن تصدره السلطة الانتقالية خلال الأيام القليلة القادمة، فالبلاد باتت أحوج ما يكون لمثل هذا الإعلان، والذي نتمنى أن لا يخرج عن المبادئ التوجيهية التي وضعها مؤتمر الحوار الوطني.

المصدر:تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى