ما انفكّ مؤتمر الحوار الوطني السوري المزمع في دمشق، يتلقّى ويستقبل مزيداً من العقبات والمعوقات المختلفة، التي تحول دون انعقاده قريباً، ما يدفع الإدارة الجديدة في سورية إلى تأجيله المرّة تلو المرّة، حتى بات السؤال السوري الشعبي: هل سيعقد هذا المؤتمر الحواري الوطني المفترض أم لا؟ إذ إن التغيير السياسي الدراماتيكي الكبير الذي جرى في سورية في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، لم يكن بالحدث العادي، كما لم يكن بالحسبان لدى الساسة والمتابعبن للشأن السوري، وهو الذي جرى بسرعة برق أربكت جميع أطياف المعارضة السورية وما حولها.
كان الحدث السوري زلزالاً قوياً بكلّ معنى الكلمة، فوضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وفرض على العقل الجمعي السوري مزيداً من الغوص والتفكير العقلاني، ومن ثمّ اجتراح الحلول، وإعادة صياغة (ورسم) خرائط ممكنة للطريق، توخّياً من ألا تتكرّر التجربة السورية كمثيلاتها في ساحات عربية أخرى، خاصّة تجربة مصر وتونس، أو حتى ليبيا.
لا يبدو الخارج الأميركي والأوروبي مستعجلاً رفع العقوبات عن سورية، كي تستمرّ الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية
المهام كثيرة وصعبة ومعقّدة، ومحدّدات السوريين لإنجاز المؤتمر الوطني الحواري الموسّع كثيرة ومشتبكة بعضها ببعض، وتحمل داخلها كثيراً من الصعوبات والمعوقات، كما أن المطالب والمتطلّبات الدولية متعدّدة هي الأخرى، وكثيرة ومتشعّبة، ويبدو أنها أصبحت بمثابة الفروض أو الشروط كي تتمكّن سورية الجديدة من الولوج في أتون مسارات المجتمع الدولي وسياقاته. وبالضرورة، تقبّل ذلك عالمياً، وغربياً على وجه التحديد والحصر، من أجل أن تأخذ الحالة السورية ما بعد مرحلة كنس آل الأسد وداعميهم مكانتها الطبيعية، دولةً وطنيةً لها ثقلها ودورها الفاعل من دون عقوبات اقتصادية وغير اقتصادية، كانت قد أرهقت المواطن السوري (وترهقه اليوم)، وتعوق مسارات النهوض الوطني المطلوب أمام أيّ حكومة جديدة جاءت، مؤقتة كانت أم انتقالية، أو حتى دائمة.
ولا يبدو أن الخارج (الأميركي والأوروبي) بصدد حالة متحرّكة من الاستعجال الجدّي في عملية رفع العقوبات، وهذا (كما يجري الحديث) حتى يظلّ الباب موارباً وغير مفتوح على مصراعيه، كي تستمرّ الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية على الحكم الجديد في دمشق، من أجل أن يكون أكثر مطواعية في موضوع الالتحاق طوعاً أو كرهاً بركب السياسة والاستراتيجيا الغربية ضمن اندراجات مصالحها الإقليمية والدولية، التي لم تعد تخفى على أحد، فهل يستطيع رئيس الإدارة الجديدة في دمشق، أحمد الشرع، ومجموعته في الحكم، تخطّي تلك الصعوبات كلّها، والاندراج في أتون سياسة وطنية سورية تنجز ما تريده أطياف الشعب السوري كافّة، وتحقّق الوحدة الوطنية، وتلبّي طلبات الغرب في إزاحة أيديولوجيات التشدّد وإشراك عملي لأطياف الشعب السوري وتلاوينه الطائفية والإثنية، وإعطاء “الأقلّيات” (كما تقول الدول الغربية) دوراً في حكم سورية، وحقوقهم المفتقدة أيّام الحكم البائد؟ وهل سيتمكّن الحكم الجديد من إشراك المرأة لتأخذ دورها المنوط بها خارج إطار التعصّب والتشدّد وتماشياً مع مواضيع “الجندرة” التي أطنبت آذاننا بها دول الغرب، وكأنّ العالمين العربي والإسلامي لا يحترمان المرأة، أو لا يعطيانها أيّ دور أو قدر، وهو منطق بعيد كلّ البعد عن الواقع العملي، عبر التاريخ القريب، وأيضاً البعيد، عن العالمين العربي والإسلامي؟
على هذا المنوال، وضمن هذه المحدّدات والتعقيدات، المطلوب من الجميع أن يُعقد المؤتمر الوطني السوري الحواري، ومن ثم أن يُشرَك السوريون كلّهم ضمن قنواته التي سوف تحدّد بالضرورة مسارات الحلّ في سورية، وتخرج السوريين من عنق الزحاجة، حتى تتمكن سورية الجديدة من إنجاز بناءات حقيقية للدولة الوطنية السورية الديمقراطية. وبالرغم من اهتمام الإدارة السورية الجديدة بمسألة إشراك السوريين في ماهية الحلّ، والخروج من حالة التردّد، وإنجاز طريق واحد ومشترك لسورية الجديدة، إلا أن كثيراً من العقبات ما زالت تعترض سبيل مسارات المؤتمر، وما زالت هناك العديد من القضايا التي تضع المسألة في متاهات عدة بين الحلّ واللاحلّ، بين الإنجاز والتأجيل، ومن هذه المسائل البحث في محدّدات اختيار المشاركين في المؤتمر، ومن هي اللجنة التحضيرية المخوّلة بهذا الاختيار؟ وعلى أيّ أسس أو معايير يكون الانتقاء والاختيار للمشاركين السوريين، حتى يكونوا ممثّلين للجميع؟ وهل يمكن للمشاركة الفردية المطروحة حلّاً للمشاركة الآن أن تفي بالغرض؟ وكيف سيتم التعامل مع الأجسام السياسية الموجودة والأحزاب التاريخية والتجمّعات بالرغم من قلّة حيلتها وعبثها بالواقع السوري وعدم ارتقائها سابقاً إلى مستوى الدم السوري المراق من نظام الإجرام الفاشيستي الأسدي؟وتبقى النظرة العقلانية السياسية تقول، إنه قد لا يكون مؤتمر الحوار الوطني السوري على الأبواب القريبة، لكنّه بات ضرورياً وينتظره السوريون بتكويناتهم وفئاتهم كلّها. المهم القول إنه لا بدّ من أن يُعبِّر (المؤتمر) عن سورية الواحدة، ويؤسّس لحوارات طرفية أخرى، قد تكون أكثر أهمية من الحوار الكبير في مؤتمر يضم 1200 مشارك.
قد لا يكون مؤتمر الحوار الوطني السوري على الأبواب القريبة، لكنّه بات ضرورياً وينتظره السوريون بتكويناتهم وفئاتهم كلّها
ولعلّ الحوارات البينية في أطراف وحافات المؤتمر، أو ما بعد انعقاده في دمشق، تؤسس لسورية الحقيقية، عالية البنيان والأسوار، والمتينة والمندمجة بكلّيتها، التي ضحى من أجلها السوريون. وهذه الحوارات يجب ألّا تنتهي مع انتهاء المرحلة، بل إن الحوار ثمّ الحوار هو مقدّمة أيّ عمل، والديمقراطية غاية وطريق، وهو ما سيراكم كل ما هو إيجابي وسينحّي جانباً بالضرورة الحالات السالبة، وسينجز بناءات وطنية سورية، ويبني دولة المواطنة في سورية، التي طالما حلم بها الشعب السوري أيام الاستبداد المشرقي، خلال 54 عاماً من حكم عصابات آل الأسد وسراياه التعفيشية والفاسدة والمفسدة. سيساهم الحوار الوطني في بناء دولة سيادة الدستور والقانون، الدولة الوطنية السورية التي يتوافق عليها السوريون بلا استثناء، ثمّ يتم بناء (منها وعلى أساسها) العقد الاجتماعي الجامع والمنشود.
المصدر: العربي الجديد