حمص المدينة ومتلازمة “مهاوش”

مالك داغستاني

“لو متُّ اليوم، لمتُّ من الفرح”، قال الشيخ الحمصي المعروف محمود دالاتي، حين تصادف لي أن تناولت معه فنجاناً من القهوة في بيت أحد الأصدقاء، رحتُ بعدها، من دون أن أنسى نسبة الاقتباس إليه، أكرّر كلما قابلت أحداً، جملة الشيخ التي سحرتني متبنياً إياها وكأنني قائلها.

ثم أشرح بعدها مازحاً، أنني سوف أكون، مرحليّاً على الأقلّ، من أتباع الشيخ فيما يطرحه من دعوات عقلانية للتعايش والأخوّة ورأب الصدوع في مدينته، بهدف الوصول إلى سوريا جديدة تخسِف بكل ما أرساه الأسد من شروخ اجتماعية وعرقية وطائفية.

قبلها، كان المهندس بسام جمعة، وهو صديق شخصي، من رفاق سجن صيدنايا، حيث قضى سنوات طويلة من عمره هناك، قد كتب على صفحته ما يشبه رسالة اعتذار باسم عموم الطائفة العلوية، أقلّه عن الصمت على جرائم النظام تجاه السُنَّة.

انتشرت رسالته انتشاراً واسعاً، مع ترحيب لدى المنتمين للطائفة السنية، وبشكل أقل كثيراً لدى المنتمين للطائفة العلوية، ولو كانوا من رفاق تجربته السياسية وزملاء السجن، حيث استنكر معظمهم لا منطقية هذا الاعتذار، فكيف للسجين الضحية أن يعتذر! وهو اعتراض له وجاهته طبعاً.

كان أمر تأييد رسالة المهندس جمعة أو استنكارها مفهوماً بالنسبة لي، انطلاقاً من السؤال الأهم: هل على أبرياء الطائفة العلوية الاعتذار عن جرائم لم يرتكبوها؟ من جهتي لم أُتعب نفسي بتفكيك منطق الرسالة، واكتفيتُ بفهمها كمحاولة بسيطة أو نداء للتقارب ورأب الصدع، مع إهمال مُتعمّد للإجابة عن السؤال السابق، صادرة عن رجل ذكي، يمتلك فِطرة سليمة، ويعرف تماماً ما يريد، وكان ملفتاً لي أن يشارك الرجل على صفحته مقطعاُ مصور لخطبة الشيخ الدالاتي أحد أيام الجمعة، مع وصفه للشيخ بأنه من أهم رجالات المدينة.

عندما ذكرت للشيخ أن صديقاً علوياً شارك خطبته، بدا عليه الاهتمام بل والتأثر، ربما لإحساسه بأن عمله اليومي الدؤوب على الضفتين بدأ يؤتي ثماره، وربما لأنه وجد شريكاً جديداً من الطرف الآخر، يتعالى مثله على الجراح الشخصية، ويحاول البناء على أنقاض بلدٍ هدّمه عن آخره، نظام الأسدين الأب والابن خلال عقود.

في مصادفة أخرى، زرت رفقة صديق منزلاً محترقاً في حي جورة الشيّاح المُدمَّر بالكامل تقريباً، يعود المنزل لعائلة “الكِن”، ومن يستعيد الأيام الأولى للثورة سيذكر اسم “بلال الكِن” الذي فقد حياته في مواجهات مع قوات النظام في حي باب الدريب، بدايات شهر أيلول عام 2011، قد لا أكون مخطئاً إن قلت أن “الكن” كان أول من حمل السلاح في مدينة حمص، وربما في كامل سوريا خلال الثورة السورية.

خرج بلال الكن من بيته، نهايات آذار عام 2011، وأطلق النار من سلاح شخصي، على استعراضات “شبيحة الأسد” الذين جابوا أحياء المدينة بسياراتهم وهتافاتهم الطائفية، في استعراض للقوة اعتبرته المدينة يومها، نوعاً من الإذلال المتعمد، ليغدو الكِن على الفور بطلاً أسطورياً شجاعاً في عموم المدينة المعارضة، وشيطاناً إرهابياً طائفياً في الأحياء الموالية، حيث وُصف هناك بأنه سلَفيّ، الأمر الذي اعتُبر بمنزلة نكتة في ضفة المدينة الأخرى، فتندّر كثيرون على سلفيّة رجل لم يُعرَف عنه يوماً أية علاقة بالالتزام الديني المتشدد.

هل كان الكِنّ طائفياَ؟ ليس لدي معرفة دقيقة بالرجل، ولكني أكاد أجزم أنه كذلك حتى ولو لم يكن متديّناً، مثله كمثل “مهاوش”، ولكن مَن هو مهاوش هذا؟ إنه مقاتل من أبناء عشائر المحافظة، خسر بيته وكثيراً من أهله، ونزح عن مدينته إلى الشمال قبل سنوات، ليعود إليها مع المحررين.

يرى سكان المدينة، أن مدينتهم وخصوصاً مؤسساتها ودوائرها الرسمية باتت، خلال سنوات قليلة بعد وصول الأسد الأب للسلطة، محتلّة بالكامل من أولئك الغرباء الوافدين من الريف العلوي..

لن أدخل بتفاصيل كيف وأين أدلى مهاوش بتصريحه البسيط والاستراتيجي الحاسم التالي: “لن ينصلح حال هذا البلد إلّا بإبادة جميع العلويين”! وسأكتفي بالقول: إن المصابين بمتلازمة مهاوش ليسوا قلّةً في المدينة، إن جاز لي أن أصف الأمر بأنه “متلازمة”.

وهو أيضأ أمر مفهوم بالنسبة لي، لمعرفتي المعقولة بالحالة الطائفية المُحتقنة التي أرساها النظام في البلاد.

يرى سكان المدينة، أن مدينتهم وخصوصاً مؤسساتها ودوائرها الرسمية باتت، خلال سنوات قليلة بعد وصول الأسد الأب للسلطة، محتلّة بالكامل من أولئك الغرباء الوافدين من الريف العلوي، فحازوا معظم المناصب المفصلية، وحتى الوظائف العادية في المؤسسات، فبدا الأمر وكأنه نوع من الاستئثار الطائفي الجائر، والسيطرة على الريعية الاقتصادية للدولة.

هل أتحدث بشيء من الوضوح الفجّ؟ نعم أقصد ذلك، مقتنعاً بأن أي نوع من التكاذب الساذج لن يحل المشكلة الطائفية في سوريا.

علينا أن نتفهم دوافع مهاوش الانتقامية، ومخاوف العلوي من “متلازمة مهاوش”، ولن يحل هذا الأمر سوى أصوات تعلم حجم وعمق المشكلة، تشبه ما يقوم به صديقي بسام والشيخ الدالاتي، أصواتٌ لا تقفز فوق الأزمة العميقة بعبارات ساذجة، بل تحاول اجتراح أساليب ذكية ومُبتكرة وغير تقليدية، لمعالجة شرخ بليغ شَطَر سوريا من أقصاها إلى أدناها.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى