
مضى حوالي أسبوعين على إضراب عن الطعام أعلنه سجناء ومعتقلون سوريون في سجن رومية اللبناني احتجاجاً على أوضاعهم وظروفهم الكارثية، التي دفعتهم إلى خوض صراع يومي مع الموت للبقاء على قيد الحياة. وسبق أن تسبّبت في فقدان عشرة معتقلين سوريين حياتهم فيه، لذا لم يبق أمامهم سوى الاستمرار في إضرابهم عن الطعام إلى حين تحقيق مطالبهم الإنسانية، وخصوصاً التي تتصل بحسن المعاملة وتأمين ضروريات الصحة والغذاء، وقرّروا عدم القبول بفتات الطعام المقدّم من إدارة السجن.
ويبدو أن المعركة التي يخوضها سوريون في هذا السجن اللبناني قد أجبروا عليها لاعتباراتٍ عديدة، لا تنحصر في الوضع الصعب الذي يعانون منه، وخاصة سوء المعاملة وانعدام الرعاية الصحية، بل في استمرار سجنهم، على الرغم من أن بيان وزارة الخارجية السورية بعد انتهاء زيارة رئيس الوزراء اللبناني السابق نجيب ميقاتي إلى دمشق، في الـ11 من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، أكد “الاتفاق على استرداد جميع المعتقلين السوريين من لبنان”. لذلك يأتي إضرابهم عن الطعام في سياق مطالبتهم السلطات اللبنانية بتنفيذ الاتفاق القاضي بتسليمهم إلى بلدهم، لاستكمال محاكماتهم فيه أو إتمام فترة عقوبة المحكومين من بينهم.
تفيد تقارير منظمات حقوقية لبنانية وسورية بأن معظم السجناء اعتقل وحوكم بناء على اعتبارات سياسية. ويقبع بعضهم في زنازين السجون اللبنانية منذ عام 2013 من دون محاكمات عادلة، حيث وجهت إليهم تهمٌ بارتكاب أعمال إرهابية مزعومة، على خلفية مساندتهم الثورة السورية أو وقوفهم معها، الأمر الذي يفسّر عدم حصول أي تقدّم في عمل اللجنة القضائية اللبنانية المشكلة لمتابعة هذه القضية، إضافة إلى أن بعض أحكام أصدرتها محكمة التمييز الخاصة ببعض السجناء لم يجر تنفيذها أيضاً، لأن القضية بحاجة إلى قرار سياسي من السلطات اللبنانية.
ليست القضية قضائية أو قانونية، ولا تتعلق بأفراد ارتكبوا أعمالاً إرهابية بحسب تهم كيدية وجّهت إليهم، بل سياسية بامتياز، على خلفية موقفهم المعارضة لنظام الأسد البائد
إذاً، ليست القضية قضائية أو قانونية، ولا تتعلق بأفراد ارتكبوا أعمالاً إرهابية بحسب تهم كيدية وجّهت إليهم، بل سياسية بامتياز، على خلفية موقفهم المعارضة لنظام الأسد البائد، حيث كانت قوى لبنانية طائفية تحالفت مع هذا النظام مهيمنة على الدولة اللبنانية، وتتحكّم في مختلف مفاصلها، وخاصة المحكمة العسكرية التي سجنت، بحسب المرصد اللبناني لحقوق السجناء، حوالي 2351 سورياً، يشكلون 30% من إجمالي السجناء في عموم لبنان، بينهم 400 من معتقلي الرأي، وجّهت المحكمة العسكرية إلى 250 من بينهم تهماً بالانتماء إلى تنظيمات إرهابية وسواها من التهم المتصلة بالإرهاب، بينما أُوقف الباقون بتهم جنائية أخرى، ترتبط، في الغالب، بظروف اللجوء القاسية والمعاملة السيئة من الأجهزة الأمنية والقضاء اللبناني. أي أن غالبية المسجونين السوريين كانوا ضحية الوضع السياسي والأمني الذي كان سائداً في لبنان قبل سقوط نظام الأسد، حيث كانت السلطات اللبنانية تستهدف معارضي ذلك النظام، ويلفّق عناصر فيها أدلة ضدهم وتقدّمهم إلى محاكمات صورية. يضاف إلى ذلك كله أن هؤلاء المعتقلين يتعرّضون للتعذيب خلال استجوابهم، وهو ما تجسّد بوضوح في قضية بشّار عبد السعود، الذي قتل تحت التعذيب في 30 أغسطس/ آب 2022 في مركز تبنين التابع لجهاز أمن الدولة في الجنوب اللبناني. وقد دفع تواتر عمليات تعذيب السوريين في السجون اللبنانية منظمّة العفو الدولية إلى إصدار تقرير في عام 2022، ذكرت فيه بشكل مفصل بعض مآسي لاجئين سوريين، احتجزتهم السلطات اللبنانية بشكل تعسّفي، وتعرّضوا لمختلف أنواع التعذيب وأساليبه، وشملت استخدام كابلات وأجهزة كهربائية، وضربهم بالأسلاك والقضبان، وربطهم بطريقة “بساط الريح” و”البلانكو” و”الشبح” وسوى ذلك.
استمرار مخلفات المرحلة المظلمة في تاريخ العلاقات السورية اللبنانية
المشكلة هي في استمرار مخلفات المرحلة المظلمة في تاريخ العلاقات السورية اللبنانية، على الرغم من انتهاء ما سمّي “عهد الوصاية”، إضافة إلى انتخاب الرئيس جوزاف عون، وتشكيل حكومة لبنانية برئاسة نوف سلام، حيث لا تزال السلطات اللبنانية تأخذ موقف وزير العدل السابق هنري خوري الرافض تسليم أيٍّ من المعتقلين السوريين إلى بلادهم، بحجة أنهم ارتكبوا جرائم استهدفت أمن الدولة وهدّدوا السلم الأهلي. ويرى خوري أن ينفذوا محكوميتهم في لبنان عوض تسليمهم إلى دمشق، متذرّعاً بأن “من غير المنطقي أن تتنازل الدولة عن حقها”. ويلتقي موقفه مع موقف قضاة ممن عملوا في المحكمة العسكرية. وبالتالي، فإن من واجب السلطات السورية مطالبة سلام بتنفيذ الاتفاق، وتسليم جميع السجناء والموقوفين السوريين إلى بلادهم، خاصة أنه يمتلك الصلاحيات والأدوات التي تمكّنه من حلّ القضايا القانونية والإنسانية داخل السجون اللبنانية، وبما يعيد تأسيس العلاقات السورية اللبنانية وفق مبادئ مختلفة عن التي سادت في المرحلة السابقة.
لقد عانى سوريون معارضون لنظام الأسد عديدون منذ سنوات في سجن رومية سيئ الصيت، ويخوضون اليوم معركة الجسد من أجل البقاء أحياء، ووضع حدٍّ لمأساتهم، لكن المؤسف ألا تلتفت السلطات اللبنانية إلى معاناتهم، بالرغم من أنهم مشمولون باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب لعام 1984، التي تطالب بضمان حقوق المعتقلين وتحسين ظروف الاحتجاز وتوفير بيئة إنسانية تحمي حقوقهم الأساسية، إضافة إلى أن المنظمات الحقوقية الدولية تحثّ على ضمان عدم التمييز وإلغاء محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. ولعل السلطات السورية الجديدة مطالبةٌ ببذل مزيد من الجهود لإيقاف معاناة المضربين عن الطعام، الذين يضحون بأجسادهم وأرواحهم تعبيراً عن توْقهم للحرية، ويستخدمونها في معركة سلمية احتجاجاً على الإجحاف وسوء أوضاعهم، والأمل معقود على أن تسعى إلى حلّ قضيتهم.
المصدر: العربي الجديد
سقط وهرب طاغية الشام وسوريون معارضون لنظامه منذ سنوات في سجن رومية سيئ الصيت، ألم يحن الوقت لتسترهم السلطة السورية؟ إنهم يخوضون اليوم معركة الجسد من أجل البقاء أحياء، الحرية .. الحرية للسوريين المعارضين بسجون لبنان “سجن رومية”.