لا لتكريس ثقافة البؤس السياسي والأخلاقي

حسن النيقي

أسهمت الحقبة الأسدية في تشويه العديد من المفاهيم والأفكار التي يمكن أن تكون أساسية في الحقل السياسي، وذلك في سياق سعيها لمحاربة معظم ضروب التفكير التي من شأنها أن تبعث الإحساس لدى المواطن بأنه كائن بشري له مطلق الحرية في إنتاج أفكاره والتعبير عن رؤاه وتصوراته، فما هو متاح بالنسبة إلى السلطة على الدوام هو التفكير في سياقات تحدّدها السلطة وتعرف مخرجاتها سلفاً، أمّا ما هو غير متاح، بل ما هو محظور هو اقتراب المرء من سياقات التفكير التي لا يمكن للسلطة ان تتنبأ بمخرجاتها، أي التفكير بعيداً عن السرْب، أو خارج الصندوق كما يقال.

من ليس معنا فهو ضدّنا

لعل من أبرز تلك المفاهيم التي كانت غائمة بل مشوّهة، وما تزال كذلك، هو مفهوم (المعارضة والموالاة)، ولعل ما هو معلوم أن فكرة “المعارضة” لم تكن موجودة في العرف السياسي الأسدي، طالما أنها كانت تحيل إلى ما هو مخالف للسلطة، بعيداً عن درجة المخالفة، وليس في الحقل السياسي فحسب، بل في أي شأن حياتي آخر، أي إن درجة التسلّط والإقصاء السلطوي لم تترك أي هامش للتمييز بين موقف سياسي مناهض لنظام الحكم، وبين موقف آخر لا يتجاوز الاحتجاج على أسعار الخضار أو سوء الخدمات على سبيل المثال. وقد انتج هذا السلوك السلطوي مفهوماً شائها لمصطلح “المعارضة” أدّى إلى انزياحه إلى مفهوم “الخيانة”، وذلك استناداً إلى القاعدة التي عملت بموجبها السلطة الأسدية: “كل من يخالف السلطة هو خائن” وبالطبع فإن هذه المعادلة لم تكن تستند إلى فراغ، بل تتأسس على سردية سياسية حاول نظام الأسد تعزيزها في أذهان السوريين على مدى أكثر من نصف قرن، ومفاد هذه السردية أن النظام القائم في دمشق يواجه عدواناً صهيونيا إمبريالياً مدعوماً من الرجعية العالمية والمحلية، وهو في حالة مواجهة دائمة توجب عليه استنفار جميع قدراته لمواجهة هذا الخطر الدائم، وبناء عليه، فإن أي مقاربة تهدف إلى نقد نظام الحكم أو مخالفته سيتم تصنيفها على أنها محاولة لإضعاف نظام الحكم، ( وهن عزيمة الأمة – مناهضة أهداف الثورة) وبالتالي هي انحياز سيخدم القوى المعادية، فهي – وفقاً لذلك –  فعل خياني يوجب إنزال أقصى درجات المساءلة والعقاب بفاعله، ولعل هذا ما يفسّر تعرّض عشرات الآلاف من المواطنين السوريين لسنوات اعتقال امتدت إلى عقود من الزمن لمجرّد أنهم أبدوا رأياً أو موقفاً مخالفاً لمواقف السلطة الحاكمة.

من أبرز سمات الحقبة الأسدية هي أنها لم تتح للمواطن سوى ضفتين، كلّ منهما على نقيض الأخرى، إمّا موالٍ للسلطة إلى درجة التماهي المطلق، أو عدوٌّ مطلق، وهو ما يدخل حيّز “الخيانة”.

من أبرز سمات الحقبة الأسدية هي أنها لم تتح للمواطن سوى ضفتين، كلّ منهما على نقيض الأخرى، إمّا موالٍ للسلطة إلى درجة التماهي المطلق، أو عدوٌّ مطلق، وهو ما يدخل حيّز “الخيانة”، في حين أن مفهوم المعارضة بصيغته الدستورية وأعرافه السياسية المتعارف عليها دولياً لم يكن موجوداً، بل الأدق أنه لم يكن مقبولاً من السلطة، وخاصة في ظل غياب قانون ناظم لوجود الأحزاب وكذلك في ظل غياب فعلي لأي شكل من أشكال الحريات، ولعله من النافل القول: أن ما يُدعى بأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، إنما هي في حقيقتها أشدّ موالاة وانقياداً لنظام الحكم من حزب البعث الحاكم نفسه.

نجاح التحولات السياسية والشرط الأخلاقي

في التحوّل الكبير الذي شهدته البلاد منذ الثامن من شهر كانون الأول الماضي، تطلّع الكثير من السوريين إلى أن يكون اندحار الحقبة الأسدية بدايةً ليس لعهد سياسي نظيف فحسب، بل بدايةً – أيضاً – لحقبة أخلاقية نظيفة تتماهى مع الشرط الإنساني للمواطن الحر، ولكن استمرار العديد من الظواهر المنافية للأخلاق والسياسة معاً تحيل إلى وعورة شديدة في تجاوز ثقافة الاستزلام والاتّضاع، بل تؤكّد أن إزالة الإرث الأسدي ليست مرهونة بتحوّل سياسي فحسب، بل هي قرينة تحوّل أخلاقي إنساني قبل أي شيء آخر. ففي إحدى المظاهرات التي خرج فيها مواطنون في مدينة طرطوس بمظاهرة سلمية يطالبون بمطالب معيشية لا صلة لها البتة بموقف سياسي مناهض للسلطة، فواجهتهم مظاهرة أخرى لأشخاص يهتفون بعبارات مؤدلجة “سوريا حرة علماني يطلع برا” ويحملون الهراوات وبعضهم يحمل السكاكين في مظهر هجومي بهدف تفريق المظاهرة الأولى، وكأن المشهد بات يُفَسّرُ على أن المظاهرة الأولى هي معارضة لنظام الحكم أو السلطة الجديدة، في حين أن الثانية موالية، والحال أن الأمر ليس كذلك، ولكن من أعطى الحق للجماعة الثانية بمصادرة حق الآخرين بالتظاهر السلمي والمطالبة بحقوق معيشية، ولماذا الاحتماء بشعارات إيديولوجية أثبتت بؤسها ولم تعد موضع قبول من غالب السوريين؟ ولماذا هذا السعي المحموم من الجماعة المؤدلجين لمواجهة المطالب الحياتية بسيوف الأدلجة؟ هل ثمة جواب سوى أنها نزعة الولاء المجاني المطلق التي كرّستها الحقبة الأسدية في مواجهة من يحمل بذرة الاختلاف؟ ثم ما علاقة المطالب الحياتية بالعلمانية، وهل غير العلماني لا يحتاج إلى الخبز والماء والكهرباء، أم يعتاش على الشعارات فقط؟

تطلّع الكثير من السوريين إلى أن يكون اندحار الحقبة الأسدية بدايةً ليس لعهد سياسي نظيف فحسب، بل بدايةً – أيضاً – لحقبة أخلاقية نظيفة تتماهى مع الشرط الإنساني للمواطن الحر، ولكن استمرار العديد من الظواهر المنافية للأخلاق والسياسة معاً تحيل إلى وعورة شديدة في تجاوز ثقافة الاستزلام والاتّضاع.

وفي سياق موازٍ لما سلف ذكره، تشهد  فنادق ومقاهي مدينة دمشق اكتظاظاً شديداً بوفود وجماعات من داخل سوريا وخارجها، ومنها من ينتظر مدة أسبوع أو أكثر ليحظى بلقاء القيادة الجديدة للبلاد أو بأحد مسؤوليها، وأنا هنا لا أعني من لديه أفكار أو تصورات أو خطط عمل ومشاريع ذات صلة بالشأن العام ويريد إيصالها أو عرضها على القيادة، فهؤلاء بلا شك سعيهم محمود ومشكور، وإنما أعني من أرادوا مجرّد اللقاء لكيل المديح المجاني وإسداء المباركات الجوفاء والتقاط الصور، وبالتالي تقديم الولاء المطلق، وكأنهم مُتّهمون يبحثون عن صك بالبراءة وتزويدهم بوثيقة “الوطنية الخالصة” مقابل هذا الثناء المجاني على الحاكم، وهذا السلوك يستحضر في الذهن تلك الوفود والقوافل التي كانت تؤمّ بوابات السلطة في عهد الأسد الأب على إثر كل استفتاء رئاسي أو بمناسبة الحركة التصحيحية وما إلى ذلك. علماً أن الرئيس الجديد للبلاد السيد أحمد الشرع، وفي أول خطاب له موجه إلى الشعب سوري كان قد ذكر عبارة تؤكّد بأنه “خادم للشعب” وهي عبارة طيبة تبعث على الاطمئنان وتؤسِّس لعلاقة سليمة بين المواطن والحاكم. ما أتمنّاه هو أن تدرك القيادة الجديدة أن الخطر الناجم عن سلوك أصحاب الثناء الأجوف والمتملّقين والمتهافتين على أبواب السلطة هو أكثر بكثير من وخزات المنتقدين والناصحين لها، فالمديح المجاني والتزلّف للسلطة يُدعى في العرف الإسلامي “نفاقاً”، وفي السياسة يُدعى “محاباة” وفي العرف الشعبي يُدعى “تمسيح جوخ” وكلها صفات قبيحة منافية للفطرة الإنسانية السليمة، فضلاً عن كونها تنبثق عن ثقافة الرذيلة والانحطاط.

في فيديو تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي في اليومين الماضيين وانتشر انتشاراً سريعاً، يظهر فيه رجل كبير في السن يُدعى (فصيح هنداوي) كان ضمن وفد من المواطنين الذين التقوا السيد أحمد الشرع، ولكن في فترة سابقة لعملية ردع العدوان، وقد أظهر الرجل المُسن فرادة في كلمته التي تحدث بها، إذ قال مخاطباً الشرع: (كل ما يقال من إطراءات ومطالب سواء شخصية أو مناطقية لا تعنيني.. أنا مع أبو محمد الجولاني بس ماني تابع، أنا شريك، الوطن ليس للجولاني وحده ولا لي وحدي ولكنه للجميع ولو أن اللي عم يطلع مظاهرات يقدم لي بديلاً أفضل من أبو محمد الجولاني لوقفتُ معه، وهذا الشريك إن لم يقبلني شريكاً ويريد مني أن أجمّل أخطاءه فأنا لست معه، أنا عندي مطالب خاصة ولكن عيب عليّ أقولها بها الوقت). أعتقد جازماً أن ما تحدث به فصيح هنداوي، على عفويته وبساطته، يختزل أهمّ الأسس الناظمة للعلاقة بين الحاكم والمواطن (الشراكة وليس التبعية والولاء المجاني – قيمة الحاكم لا تكمن بشخصه بل بما يقدمه للشعب– الإحساس بالمسؤولية حيال المصلحة العامة هي قيمة أخلاقية)، كما أضيف: إن ما جاء على لسان هذا الرجل المسنّ هو أكثر صدقاً وأنضج تعبيراً من بعض دهاقنة الثقافة أو ممّن جعلوا أنفسهم أوصياء على وعي الناس.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. نظام طاغية الشام من الأب الى الإبن المعاق كرس ثقافة “البؤس السياسي والأخلاقي” من تبجيل القيادة وقسم المجتمع الى معارض وموالي، بين نقيضين لا يتحملهما، لذلك يتطلع شعبنا لحقبة أخلاقية نظيفة تتماهى للشرط الإنساني والمواطن الحر، ولكن استمرار بعض الظواهر المنافية للأخلاق والسياسة تعيدنا الى ثقافة الاستزلام والاتّضاع ((الشراكة وليس التبعية والولاء المجاني)) فهل نحن موافقين.

زر الذهاب إلى الأعلى