
العالم والوعي بالذات، والآخر تغير منذ التقاط جوزيف نيسيفور نيبس أول صورة فوتوغرافيا -١٨٨٦ وتصميم أول كاميرا من المخترع الإسكتلندي أول كاميرا كنيوسكوبي عام 1891، والتقاط روبرت كورنيليوس أول صورة ذاتية عام 1839. أدى هذا الاختراع إلى تغير في علاقة الإنسان بذاته، والفضاءات التي يحيا فيها، وتكرس ذلك وتطور مع أوجست ولويس لوميير ، وجهاز السينماتوغراف عام 1895، ومع السينما الصامته ، والناطقة، وتطور فن السينما ومدارسه الإخراجية، وظهور التلفاز، كل هذه التطورات التقنية في مجال التصوير ساهمت -ضمن محركات ودوافع أخرى- في التأثير علي الوعي بالشرط الإنساني، والوجودي، وقامت بإثراء المخيال الفردي والجماعي في كل ثقافات العالم، ونظمه الاجتماعية والسياسية حتى ظهور الهاتف النقال، وثورة الرقمنة، والذكاء الإصطناعي التوليدي، ووسائل التواصل الاجتماعي . مرت 184 سنة منذ التقط جوزيف نيسيفور أول صورة شخصية حتي تحميل أول صورة مع تطبيق انستغرام في 12 Agu.2023. كل هذه التطورات التقنية من الفوتوغرافيا، إلى السينما، إلى التلفزة إلى الرقمنة كانت انعكاسا للثورات الصناعية، والتخصصات ، والتداخل بين الروئ البصرية، والجماعية، والتشكيلية، وبات عالم الصورة مؤثرا في الوعي الفردي، والجماهيري، وأيضا على الوعي والسلوك السياسي، للسياسيين، والزعماء في السلطة والمعارضة، في الصحف والمجلات في الماضي، وفي السينما، والتلفزات، حتى وسائل التواصل الاجتماعي.
ارتبطت الصورة الفوتوغرافية، والشرائط السينمائية، والتلفزات بمفهوم الشهرة، والذيوع، والتأثير، والعلاقات العامة ، ثم مع أجهزة الدولة الإيديولوجية، على نحو ما كان سائداً في ظل الإمبراطورية الماركسية اللينية، والتي كانت تعكس إيديولوجيا النظام السوفيتي، وكتلته الاشتراكية، في التعبئة السياسية ، والضبط الاجتماعي والسياسي، وهو ما انتشر أيضا في دول ما بعد الاستعمار، وحركات التحرر الوطني العالم ثالثية آنذاك. في كل النظم السياسية كانت الصور الفوتوغرافية والسينمائية والتلفازية، هى عماد الأجهزة الإيديولوجية للنظام أيا كانت طبيعته، بما فيها النظم الديمقراطية التمثيلية الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
من الشيق ملاحظة أن الأقمار الصناعية الفضائية ساهمت في تغيير العلاقة بين زمن الصورة التلفازية، وزمن الحدث، على نحو ما حدث في اثناء انقلاب يانييف وفشله في الاتحاد السوفيتى، وتحول مع قناة CNN إلى توحد زمن الصورة، والحدث معا، وهي نقلة كبرى، سياسيا، وفي تأثير الصور التلفازية على مجريات على الأحداث السياسية الكبرى، وكانت نقلة نوعية سياسيا، وفي تداول الأخبار، والمعلومات أيا كانت صحيحة أم بها بعض من التوظيف السياسي لطرف دولي إزاء الآخر.
بدى ذلك مؤثراً أيضا في الحروب بين الدول، وداخل كل دولة بين بعض مكوناتها، أو انقلاباتها، أو حروبها الأهلية.
ظهرت قوة تأثير، ما يمكن أن نطلق عليه سلطة الصورة في المنطقة العربية مع قوات التحالف الدولي، بقيادة الإمبريالية العولمية الأمريكية، وضرب مناطق متعددة في العراق، وزحفها لاحتلاله، وإسقاط النظام البعثي بقيادة صدام حسين، والقبض عليه، ومحاكمته وإعدامه في مشهد بالغ الاستثنائية، والتأثير.
أدى تطور الهاتف المحمول إلى تغييرات في الوعي الجمعي، والعلاقات الإنسانية، ومفاهيم الصداقة، والزمالة، والأسرة، بل والمجتمع ،،والعلاقات الطبقية داخله بين السراة عند قمته، والوسط، والأغلبية من المعسورين، وفي اتساع الفجوات بين هذه الطبقات، والأهم الوعي الاجتماعي، والطبقي بالاختلالات في النظام الاجتماعي، وهو ما ساهم في شروخ حادة في نظام الشرعية السياسية في عديد من الدول العربية، ودول جنوب العالم الأكثر عسراً، والمتوسطة، وايضا في مجتمعات الشمال الأكثر تطوراً.
لم يقتصر الأمر على السياسة، والثقافة، بل امتد ذلك إلى تغييرات في أنماط التدين، وخاصة في العالم العربي، وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي، في توزيع الخطابات الدينية لرجال الدين الرسميين التابعين للسلطة السياسية والدينية الرسمية ، أو دعاة الشوارع، أو الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية والسلفيات الجهادية. باتت المنشورات، والتغريدات، والفيديوهات الطلقة ، والوجيزة جداً، التي يتم طرحها وتدويرها على الفضاءات الافتراضية، دعماً للمكانة، ونشر الأفكار النقلية، أو الصادمة، والمثيرة أيضا . لعبت الفيديوهات الطلقة، دورها في الكشف عن عمليات الإبادة الجماعية، والنزوح القسري، من المناطق المختلفة في قطاع غزة من قبل الجيش الإسرائيلي ، بل وفي كشف التصريحات العنصرية من بعض السياسيين الإسرائيليين في نظرتهم للإنسان والشعب الفلسطيني، بوصفهم حيوانات بشرية!
أدت الفيديوهات الطلقة من قبل المقاومة الفلسطينية، في ترسيخ قيمتي المقاومة المشروعة، والشجاعة في عملياتهم تجاه القوات الإسرائيلية، وأسلحتها المدرعة المتطورة، من المركبات والمدرعات، والدبابات الميركافا.
كشفت الفيديوهات الطلقة، والتلفزات ومواقع التواصل الاجتماعي، عن استمرارية حضور حركة حماس في تنظيم القطاع رغم تدميره ، على نحو ما تم مشاهدته في تنفيذ اتفاقيات وقف إطلاق النار المؤقته ، وتسليم الأسرى الإسرائيليين علي مراحل.
هذا الانعكاس التقني في عالم الصور الرقمية، والفيديوهات الوجيزة، لعب دورًا مؤثرًا على عيون، وعقول ووعي مليارات الملايين من الجموع الرقمية والفعلية الغفيرة في المجتمعات العربية، وأيضا في الولايات المتحدة، وكندا، وأوروبا، وغيرهم في عالمنا، وهو ما حرك التظاهرات المطالبة بوقف إطلاق النار، والإبادة الجماعية.
باتت الجموع الرقمية الغفيرة فواعل سياسية رقمية مؤثرة نسبيا على بعض السياسات والقرارات السلطوية، وكاشفة عن اختلالاتها، أو بواعثها الفسادية ، والشخصية، والعرقية، والدينية والمذهبية في بعض الدول العربية، مثل لبنان والعراق، والسودان، وليبيا، خاصة في ظل فساد الطبقة السياسية الطائفية، والمذهبية، والعرقية، والقبائلية، في أعقاب انهيار الأنظمة، أو في اثناء الحكم، أو في الحروب الأهلية، وعن علاقات بعض الساسة الفاسدين، ببعض الدول التي تحاول لعب أدوار إقليمية داخل هذه البلاد، وغيرها.
ازداد تأثير وسائل التواصل، والفيديوهات الطلقة، في الكشف عن الانتهاكات الواسعة النطاق للمدنيين، والاعتداءات على النساء، وتدمير الأحياء والمدن، وذلك في أثناء الحروب الأهلية، والكشف عن مصادر الشراء الفاحش لأمراء الحرب. من مثيل قادة قوات الدعم السريع حمديتى وأخيه..الخ . دور الصور الفوتوغرافية والرقمية، والفيديوهات باتت تمثل أدوات ضغط، وتأثير نسبي على السياسة، والسياسيين، وأصبحت مؤثرة على الصحافة والإعلام الرقمي، وأيضا على الصحافة الورقية ومواقعها الرقمية لبعض الصحف الكبرى عالميا، كمصادر للوقائع والأحداث السياسية، والعسكرية، والاجتماعية المؤثرة.
باتت مؤثرة عمليات إعادة نشر بعض الأخبار أو التصريحات والتعليقات المنشورة رقميا على مواقع بعض الصحف الكبرى على وسائل التواصل الاجتماعي، ومعها بعض الفيديوهات والتصريحات للقادة السياسيين، وأيضا بعض الفيديوهات لأحداث سقوط الطائرات المدنية، وتحطمها، أو عمليات إطلاق الرصاص على بعض المارة، والمطاعم في الولايات المتحدة الأمريكية الدول الغربية، أو محاولات الاغتيال، أو الطعن، أو الدهس للمارة من بعض الذئاب المنفردة الذين تم تجنيدهم رقميا في تنظيم داعش على نحو ما حدث في فرنسا.
لا يقتصر دور الصورة الرقمية، والفيديوهات على الحروب، والعنف الدموي، أو غيره من العمليات الإرهابية، والإجرامية، وإنما امتد إلى الزلازل، والبراكين، والوقائع الطبيعية الدالة على اختلال النظام البيئي الكوني على نحو يحفز الوعي بضرورات إعادة التوازن البيئى إلى عالمنا.
باتت الصور والفيديوهات الرقمية أكثر تأثيرا، وتوظيفا في طرائق تفكير، ومحفزات سلوك جيل Z ، وسيتزايد تأثيرها مع أجيال الذكاء الاصطناعي التوليدي، والروبوتات، وأيضا على وعيهم الاجتماعي، والسياسي المختلف عن أجيال القرن العشرين، بل والعقديين الماضيين من الألفية الحالية، وخاصة مع تطورات الرقمنة، بل وتحولاتها إلى مايغايرها نحو اكتشافات تقنية ورقمية جديدة، وفائقة السرعة في تطوراتها، وأشكالها، بل وفي لغتها الرقمية.
ساهمت الصور والفيديوهات الرقمية في إنتاج لغة بصرية، وأنماط للمشاهدة الومضاتية، والقراءة ، والكتابة الومضة .
كل هذه التحولات فائقة السرعة، تغير معها نسبيا مفهوم السياسية، بل والسياسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، وما بعدهما، وأيضا على فعالية الأحزاب السياسية في الدول الغربية الليبرالية التمثيلية، وجماعات الضغط، وسيؤدي ذلك إلى تغيرات مستقبلية على النظم السياسية، وأيضا على مستقبل التسلطية ، والاستبداد السياسي في بعض دول جنوب العالم المتخلفة، والكشف عن اختلالات نظمها السلطوية، وستولد أنماط من المقاومات الرقمية عبر الصور، والفيديوهات الرقمية، ولغة عنيفة، وساخرة من أجيال Z ، وما بعدها، وستوظف الصور والفيديوهات الحقيقة، أو المصنوعة من خلال الذكاء الاصطناعي التوليدي وتطوراته في نقد السلطة، والسياسيين، والموالين لهم، وأقاربهم، وأسرهم في حالة من المقاومات للاستبداد، والتسلطية السياسية، والرقابة الرقمية على السلوك السياسي، والفردي للسياسيين، والحكام، والمعارضين، على نحو ما بات يشيع في الدول الديمقراطية الغربية. عالم مختلف، وأجيال جديدة، وعيها وسلوكها محمول على سلطة الصورة، والفيديوهات الرقمية الطلقة التي تغير السياسة ، والعالم المتغير.
المصدر: الأهرام