الديمقراطية والشورى: نحو حكم رشيد في سوريا المستقبل

بشار الحاج علي

في ظل ما شهدته سورية من صراعات طويلة مع الاستبداد، أصبح واضحاً أن أي حديث عن مستقبل البلاد لا يمكن أن يتجاهل مسألة نظام الحكم. فكيف نضمن أن يكون النظام القادم قائماً على العدالة والمشاركة الشعبية، وفي الوقت ذاته يحافظ على الكفاءة والاستقرار؟ هنا يبرز مفهومان أساسيان: الديمقراطية، التي تتيح للشعب حق اختيار من يحكمه ومحاسبته، والشورى، التي تضمن وجود أصحاب الخبرة والتخصص في صناعة القرار، بحيث لا تكون الدولة خاضعة لمزاجية الحكومات أو تقلبات المصالح السياسية قصيرة الأمد.

الديمقراطية: ضمانة الشعب لاختيار قيادته ومحاسبتها

إن أحد أكبر الأخطاء التي وقع فيها السوريون لعقود هو غياب الديمقراطية، ليس فقط كنظام انتخابي، ولكن كآلية تحميهم من تسلط السلطة وتجبرها على الخضوع لإرادتهم، فالديمقراطية الحقيقية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل هي الضمانة الوحيدة التي تتيح للشعب تغيير الحاكم سلمياً إذا أخفق، ومحاسبته إذا انحرف، وتمنع احتكار السلطة تحت أي ذريعة أو مبرر.

لقد عشنا في سوريا تجربة مريرة مع نظام فرض نفسه بالقوة، وألغى أي إمكانية للمشاركة الشعبية الحقيقية. لم يكن هناك أي وسيلة لمساءلة الحاكم سوى المواجهة المباشرة، وهي المواجهة التي دفع السوريون ثمنها غالياً من دمائهم ومستقبلهم، ولهذا لا يمكن القبول بأي نظام لا يعطي الشعب حقه في اختيار من يحكمه بحرية، وحقه في إسقاطه إذا أخل بواجباته تجاه الوطن والمواطنين.

الديمقراطية وحدها لا تكفي لضمان نجاح الحكم، فليس كل قائد منتخب هو بالضرورة الأجدر أو الأكثر كفاءة، فكم من دول ديمقراطية شهدت وصول قادة لا يمتلكون المؤهلات المطلوبة، أو وقعوا تحت تأثير الحسابات الشعبوية الضيقة التي أضرت بالصالح العام؟

اليوم، ومع التطورات المتسارعة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد بإمكان أي سلطة إخفاء فشلها أو قمعها كما كان يحدث في الماضي.

أصبح المجتمع أكثر وعياً بحقوقه، وأكثر قدرة على كشف الفساد والأخطاء السياسية، مما يجعل الحاجة إلى نظام ديمقراطي راسخ أمراً لا يمكن تجاوزه. فالسلطة التي لا تستند إلى إرادة الناس وتخضع لرقابتهم ستتحول عاجلاً أم آجلاً إلى استبداد جديد، مهما حاولت تبرير ذلك بالشعارات أو الأيديولوجيات.

الشورى: دور الخبرة في ترشيد القرار السياسي

لكن الديمقراطية وحدها لا تكفي لضمان نجاح الحكم، فليس كل قائد منتخب هو بالضرورة الأجدر أو الأكثر كفاءة، فكم من دول ديمقراطية شهدت وصول قادة لا يمتلكون المؤهلات المطلوبة، أو وقعوا تحت تأثير الحسابات الشعبوية الضيقة التي أضرت بالصالح العام؟ لهذا، لا بد من وجود آليات تضمن أن يكون في صناعة القرار أصحاب الخبرة والكفاءة، بحيث لا تترك القضايا المصيرية للصدف أو للحملات الانتخابية العاطفية.

الشورى، بهذا المعنى، ليست بديلاً عن الديمقراطية، بل هي عامل مكمل لها، فهي تتيح مشاركة أوسع للخبراء والمتخصصين في وضع السياسات وصناعة القرارات، مما يقلل من احتمالات الوقوع في أخطاء كارثية قد يدفع الشعب ثمنها لاحقاً. في سوريا المستقبل، يجب ألا يقتصر دور المشاركة الشعبية على الانتخابات فقط، بل يجب أن يكون هناك مجالس متخصصة تضم أصحاب الخبرة في الاقتصاد والسياسة والإدارة، لضمان أن تكون القرارات مبنية على رؤية علمية، وليس فقط على اعتبارات سياسية أو مزاجية.

تحقيق التوازن بين الديمقراطية والشورى

بعض الأطروحات ترى أن الديمقراطية قد تؤدي إلى حالة من الفوضى، فيما يرى آخرون أن الاعتماد على مجالس استشارية فقط قد يفتح الباب أمام نظام مغلق تتحكم فيه نخبة ضيقة. لكن التجارب الحديثة أثبتت أن الحل لا يكمن في إلغاء أحدهما لصالح الآخر، بل في تحقيق توازن بينهما.

في سوريا، يمكن تصور نموذج يدمج بين الديمقراطية والمشاركة الاستشارية الفعالة:

– الديمقراطية تمنح الشعب الحق في اختيار قيادته ومحاسبتها، مما يضمن عدم احتكار السلطة أو توريثها بأي شكل من الأشكال.

– وجود مجالس متخصصة تضم أصحاب الخبرة يضمن أن تكون القرارات مدروسة، وألا تقع الدولة تحت تأثير قرارات شعبوية أو غير واقعية.

هذا النموذج ليس فكرة نظرية فقط، بل هو ما أثبت نجاحه في العديد من الدول التي استطاعت الجمع بين آليات الديمقراطية ومؤسسات استشارية قوية تقدم المشورة والرأي المستقل، مما جعل قراراتها أكثر توازناً واستقراراً.

من المهم أن يدرك السوريون أن بناء المستقبل لا يتم فقط برفض الماضي، بل بوضع أسس لنظام حكم قادر على تحقيق التوازن بين الحرية والاستقرار، بين الإرادة الشعبية والرؤية الاستراتيجية

التطبيقات الحديثة: كيف يمكن لسوريا تبني نموذج حكم متوازن؟

عند الحديث عن الديمقراطية والشورى، لا بد من النظر إلى نماذج حكم استطاعت المزج بين المشاركة الشعبية الواسعة وبين المؤسسات الاستشارية التي تضمن اتخاذ قرارات مدروسة. يمكن الاستفادة من تجارب بعض الدول التي نجحت في تطوير أنظمة حكم تدمج بين الانتخابات الحرة، وبين مجالس استشارية أو هيئات مستقلة تعمل على تقديم المشورة في المجالات الحساسة، بحيث لا تترك السياسة وحدها تتحكم في القرارات المصيرية للدولة.

على سبيل المثال، بعض الدول اعتمدت على برلمانات منتخبة بالكامل، لكنها في الوقت ذاته أنشأت مجالس خبراء تعمل إلى جانب السلطة التنفيذية، وتتمتع بصلاحيات تقديم التوصيات الملزمة في بعض الملفات، مثل الاقتصاد أو العلاقات الخارجية أو الأمن القومي، هذا النموذج يمكن أن يكون مثالاً جيداً لسوريا، بحيث لا يتم تكرار أخطاء أنظمة حكم قامت إما على استبداد مطلق، أو على ديمقراطية غير منضبطة أوقعت البلاد في أزمات لا تقل خطورة.

نحو نظام حكم يحقق المشاركة والاستقرار

من المهم أن يدرك السوريون أن بناء المستقبل لا يتم فقط برفض الماضي، بل بوضع أسس لنظام حكم قادر على تحقيق التوازن بين الحرية والاستقرار، بين الإرادة الشعبية والرؤية الاستراتيجية، وبين حق الجميع في المشاركة وضمان أن تكون هذه المشاركة منتجة وقائمة على أسس سليمة.

سوريا تحتاج إلى نظام لا يسمح بعودة الاستبداد تحت أي ذريعة، وفي الوقت ذاته لا يسقط في فخ الفوضى السياسية، بل يحقق الاستقرار عبر ضمان مشاركة واسعة للمواطنين، إلى جانب وجود مؤسسات تضع مصلحة الدولة فوق أي اعتبارات حزبية أو شخصية.

هذا النموذج المتوازن هو ما سيجعل سوريا قادرة على تجاوز أزماتها، والخروج من دائرة الحكم الفردي من جهة، والفوضى السياسية من جهة أخرى، ليكون مستقبلها أكثر استقراراً، وأكثر عدالة، وأكثر قدرة على تحقيق طموحات أبنائها.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى