![](https://arabiansforum.net/wp-content/uploads/2025/02/الأنوار-الفرنسية-780x470.jpg)
خاضت فرنسا في مدار العام الماضي امتحاناً جيوسياسياً صعباً للغاية، مع تعاقب الهزّات التي جعلتها مثل سفينة بلا بوصلة تتقاذفها الأمواج من كلّ جانب، فزوابع الداخل لا تقلّ وطأةً عن عواصف الخارج، حتى باتت أكثر تجسيداً من أيّ وقت مضى لنبوءة الكاتب نيكولا بافيريز “فرنسا التي تسقط” (2004). بعد 20 عاماً على نشر الكتاب، تتكشف المؤشّرات لتثبت بالوقائع والأرقام أن فرنسا فعلاً “تحتضر”.
قد يبدو هذا القول مبالغاً فيه، فما تشهده فرنسا من قلاقل سياسية واضطراب اقتصادي عاشته بريطانيا قبل سنوات، وبلغ الأمر ذروته بتصويت البريطانيين على قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي عام 2016. هناك قواسم مشتركة في الأزمة بين البلدين، لكنّ الفوارق تظلّ الأكبر بينهما، ما يجعل التفسير بالقياس غير سليم، فما يحدث في عاصمة الأنوار غير ما جرى في عاصمة الضباب، على غرار البون الشاسع بين النور والضباب.
تعيش الجمهورية الخامسة، منذ تولي إيمانويل ماكرون رئاسة البلاد، خريف أيامها في فرنسا، بعدما صارت الأزمات؛ في الداخل والخارج على حدّ سواء، مدار حديث الفرنسيين، فانكفاء أزمةٍ يكون لفسح المجال أمام أخرى بارزة، بوقع وتأثير أكبر في حياة الفرنسيين ومعيشهم، في دوامة لا متناهية أسقطت عن البلاد هيبتها في نادي الكبار.
اقتصادياً، تحدّث رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، قبل أيام في برلمان بلاده، عن خريطة الطريق للحكومة الجديدة، كاشفاً أمام ممثّلي الأمّة حقائق مؤلمة، لم يعد التجاهل يجدي معها نفعاً، بتأكيده أن فرنسا بلغت مستوىً غير مسبوق من المديونية منذ الحرب العالمية الثانية؛ فالدين العام وصل 1.3 تريليون يورو، أي ما يعادل 114% من الناتج المحلّي الإجمالي، مع توقّعات ببلوغ الفائدة على الديون برسم العام الجاري 55 مليار يورو، وهو ما يمثل 11% من ميزانية الإنفاق الحكومي. وَهَنٌ اقتصاديٌّ وعجزٌ ماليٌّ تعدّى حدود فرنسا ليثير مخاوف عدة دول أوروبية، فإعلان باريس عدم قدرتها في الالتزام بقواعد العجز المالي الأوروبي حتى عام 2029، انعكس على دورها ومصداقيتها دولةً قائدةً داخل الاتحاد الأوروبي. هذا ما تؤكّده لغة الأرقام التي لا تعرف المجاملة، فالاستثمارات الأجنبية في البلد سجّلت انخفاضاً نسبته 49% خلال عام 2024، ما يؤثّر في صورة فرنسا ونفوذها داخل الاتحاد. وزاد موقف فرنسا الرافض لاتفاقية التجارة الحرّة مع دول ميركوسور (السوق المشتركة الجنوبية)، تأثيراً في هذه الصورة لدى الأوروبيين، إذ بدت باريس في موقع المناهض لفرص تعزيز النفوذ الأوروبي عالمياً، ما زكّى الشعور بالعزلة قارّياً.
تحوّلت فرنسا مع الجيل الجديد من رجال السياسة إلى ما يشبه واحدةً من العالم الثالث، حيث البون الشاسع ما بين الخطاب والممارسة
سياسياً، بلغت الدراما السياسية في البلاد أوجها، مطلع ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بتأييد 331 نائباً في مجلس النواب مذكّرةَ حجب الثقة، ما أدّى إلى إطاحة حكومة على وشك إتمام مائة يوم في التدبير، للمرّة الأولى منذ أكثر من 60 عاماً. كان ذلك نتيجة طبيعية ومنتظرة من إمعان ماكرون في الارتجالية لمواجهة تآكل شرعيته السياسية، فقرار حلّ مجلس النواب، بعد تقدّم التجمّع الوطني اليميني بقيادة مارين لوبان في الانتخابات الأوروبية، جاء بنتائج عكسية لتطلّعات الرئيس الذي يدبّر اللعبة السياسية بعقلية وأساليب إدارة شؤون الصيرفة والبنوك. زجّ ماكرون بفرنسا في مأزق سياسي غير مسبوق في تاريخ البلاد، فالقيود المالية والسياسية، التي أغرقت حكومة ميشيل بارنييه لا تزال قائمةً، ما يجعل يد الحكومة الجديدة مغلولةً إلى حدّ كبير في تعاطيها مع الشأن الداخلي. يزيد التقييد الدستوري من جهته الوضع تأزّماً، إذ لا يمكن إجراء انتخابات تشريعية جديدة قبل يوليو/تموز المقبل، ما يكرّس حالة الجمود السياسي في البلاد. ذلك كلّه دفع أصواتاً عديدةً إلى دعوة ماكرون إلى تقديم استقالته، فبحسب هؤلاء يصعب على الرجل (بالنظر إلى هذه المتغيّرات كلّها) الصمود 30 شهراً المتبقّية من ولايته الثانية.
دبلوماسياً، تهاوى ما بقي من قلاع فرنسا في القارّة الأفريقية، بخسارة باريس عواصم تعتبر تاريخياً معاقل الفرنكوفونية في أفريقيا (داكار وأندجامينا ونيامي…)، حتى بات الجيش الفرنسي اليوم بلا قواعد عسكرية في القارّة، بعدما تراجعت الدول المحتضنة لها من تسع دول إلى دولتَين فقط (جيبوتي والغابون). فالوجود الفرنسي في القارّة، ولا سيّما في أفريقيا الناطقة بالفرنسية، أضحى غيرَ مرغوب فيه من لدن الشعوب قبل الساسة، لامتعاضهم من سياسات فرنسا الاستعمارية، من دون أن يمتدّ نحو المواطنين الفرنسيين، فلا وجود لحزب سياسي أفريقي يعادي الأجانب، بخلاف ما يجري في فرنسا، حيث تتّسع جبهة من يناصبون العداء للأفارقة. انضمّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى هذه الجبهة، في المؤتمر الثلاثين للسفراء الفرنسيين في باريس، مطلع الشهر الماضي (6 و7 يناير/كانون الثاني)، بحديثه المتعالي عن أن “فرنسا كانت على حقّ في التدخّل عسكرياً في منطقة الساحل ضدّ الإرهاب منذ 2013، لكنّ القادة الأفارقة نسوا أن يقولوا شكراً، وألا أحد منهم يستطيع إدارة دولة ذات سيادة من دون تدخّل”. لغة مقيتة أبعد ما تكون اللياقة والدبلوماسية دفعت قادة أفارقة إلى العودة لحقائق التاريخ، بعيداً عن مزايدات ماكرون، لتذكير هذا الأخير بدور الجنود الأفارقة خلال الحرب العالمية الثانية دفاعاً عن فرنسا، فلولاهم لربّما ظلّت فرنسا ألمانيةً حتى اليوم.
سجّلت فرنسا عام 2024، بحسب تقرير المكتب الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، انخفاض عدد المواليد إلى أدنى مستوىً له
ديمغرافياً، وفي سابقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سجّلت فرنسا عام 2024، بحسب تقرير المكتب الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، انخفاض عدد المواليد إلى أدنى مستوىً له، فوفق الهيئة شهد العام الفائت ولادة 663 ألف طفل، بانخفاض نسبته 2.2 % مقارنةً بالعام الذي قبله، في مقابل زيادةٍ في أعداد الوفيات بنسبة 1.%، بتسجيل 646 ألف حالة وفاة، ما انعكس على نسبة الزيادة في عدد السكّان، التي لم تتعدَّ 0.25% خلال عام، ليستقرّ سكّان فرنسا عند 68.6 مليون نسمة مستفيدين من تدفّقات الهجرة التي أضافت صافي 152 ألف شخص إلى إجمالي السكّان. هكذا يتحوّل المهاجرون من مشجب تُعلِّق عليه فرنسا فشلها الذريع في عدد من المجالات، وحائطٍ قصير يستعرض فوقه زعماء الأحزاب قدراتهم الخطابية بحثاً عن الأصوات عند كلّ صراع سياسي، إلى معطّل (ولو بشكل مؤقّت) إلى شبح شيخوخة المجتمع الفرنسي، ومنقذ من تراجع سكّان البلاد، كما هو الحال في دول أوروبية كثيرة.
كانت فرنسا، حتى وقت قريب، حريصةً على الحضور في مسرح الأحداث العالمي، باعتبارها القوة الكُبرى التي تسعى باستماتة إلى تمثل قيم الأنوار وحقوق الإنسان، بقدرتها على الوقوف في وجه واشنطن، دركيّ العالم، أكثر من مرّة (غزو العراق مثالاً)، قبل أن تتحوّل مع الجيل الجديد من رجال السياسة (ساركوزي وماكرون…) إلى ما يشبه واحدةً من دول العالم الثالث، حيث البون الشاسع ما بين الخطاب والممارسة، فهل كان من الممكن أيام الرئيس الراحل جاك شيراك مثلاً أن تسمح الدولة الفرنسية بتحليق طائرة بنيامين نتنياهو، مجرمَ حربٍ صدرت بحقّه مذكّرة اعتقال دولية، في مجالها الجوي في رحلته إلى واشنطن.
المصدر: العربي الجديد