يزعم المؤرّخ الفرنسي بنيامين ستورا أنّ التّوتُّر الحالي في العلاقات بين بلاده والجزائر لم يسبق أن وصل إلى هذا الحدّ، رغم أنّه (ستورا) من بين الفاعلين الأساسيين، كما سيأتي، في هذا التّوتُّر رفقة فاعلين رسميين وآخرين من المثقّفين والإعلاميين ممّن تكالبوا على الجزائر، دولة، رموزاً وشعباً، ما يستدعي وقفات لتحديد المسؤوليّات وحجم التّوتُّر الحاصل بين البلدين.
سبق لصاحب هذه المقالة أنّ كتب أن المعاملة الفرنسية للمطالب الجزائرية، على كل المستويات، من الذّاكرة إلى اتّفاقية الشّراكة مع الاتّحاد الأوروبي ومروراً بالهجرة وملفي الصّحراء الغربية والسّاحل، ستكون السّبب في توتُّر العلاقات غير المتوازنة والمستقطبة، أصلاً، قبل هذه العاصفة من الأحداث التي زادت العلاقات سوءاً.
بالانطلاق من الفاعلين الفرنسيين المتسبّبين في الأزمة الحالية يمكن الحديث عن ثلاثة مستويات من الفاعلين، حيث يُوجد في القمّة رئيسٌ (ماكرون) يُعرف، في بلاده، بأنّه من أضعف الرُّؤساء الفرنسيين، ذلك أنّه يتعامل من موقف ضعف بلاده، تراجع مكانتها، ومن موقع من يريد لبلاده أن تبدو، في اليمين، سياسياً، وفي النّيوليبرالية، اقتصادياً، وهو لا يتوانى، وصولاً إلى تجسيد هذا، في التّلاعب، والمماطلة وإطلاق التصريحات، ثمّ الانقلاب عليها كما فعل بالنّسبة للذاكرة عندما ارتقى من سياسي مرشّح للرّئاسة، في 2017، إلى رئيس فعلي، لعهدتين، من الاعتراف بأنّ تاريخ فرنسا الاستيطاني في الجزائر تكتنفه جرائم ضدّ الإنسانية جرى ارتكابها على مرّ كلّ الفترة الاستعمارية (132 سنة) إلى إنكار وجود أمّة جزائرية، وبينهما كان قد أوحى بمضمون تقرير كتبه المؤرّخ بنيامين ستورا، برزت فيه رؤية فرنسا الرّسمية، الدّولة الفرنسية، الرافضة ثلاثية الاعتراف، الاعتذار والتّعويض عن الفترة الاستيطانية.
ما يُستغرب له، على المستوى الرّسمي، أنّ الدّبلوماسية الفرنسية أضحت دائرة تابعة لوزير الدّاخلية الذّي أصبح، أيضاً، وزيراً للعدل فيما يخصُّ الجزائر
تُضاف إلى مسلكية الرّئيس الفرنسي قراراته الملتبسة في ملفّي السّاحل والصّحراء الغربية، حيث أدرك أنّ خروجه من السّاحل يجب أن يشغله بديل يزيد المنطقة توتُّراً بالاصطفاف وراء رؤية لحلّ معضلة الصّحراء الغربية من دون الاعتداد بأمن المتوسّط الغربي، شمال أفريقيا ومنطقة السّاحل، وهي عمق استراتيجي للأمن الأوروبي وللأمن المغاربي.
على المستوى الرّسمي الفرنسي، دائماً، ثمّة وزيران معروفان برؤيتهما اليمينية المتطرّفة، على التّوالي وزير العدل، دارمانان، ووزير الدّاخلية، روتايو، استخدمتهما السُّلطة، في فرنسا، لإشعال التّوتُّر والعمل، بعدها، على صبّ الزّيت على النّار بتصريحات مستفزّة وعنصرية، بل وإصدار تعليمات قد تقوّض العلاقات بين البلدين، من أساسها، في التّعامل مع الهجرة، من قبل الجزائريين في المطارات ومع المسؤولين والمواطنين الجزائريين، كلّهم، في ملفّ التّأشيرات، على وجه خاص.
ما يُستغرب له، على المستوى الرّسمي، أنّ الدّبلوماسية أضحت دائرة تابعة لوزير الدّاخلية الذّي أصبح، أيضاً، وزيراً للعدل فيما يخصُّ الجزائر والعلاقات معها بعد أن لبس وزير الداخلية روتايو لبوس الدّاخلية والعدل، معاً، في قضيّتي المؤثّرين الجزائريين وبوعلام صنصال مع ملاحظة اختلاف في نبرة الخطاب بين من يتشدّد ويهدّد، أي وزير الدّاخلية، ومن يلين الخطاب ويدعو الى انهاء التّوتُّر باقتراح زيارة إلى الجزائر، أي وزير الخارجية.
شارك الوزير الأوّل بايرو في النّقاش والجدال، وإنْ في برنامج إخباري، قائلاً “نحن غارقون بوجود المهاجرين”، إذ تحدّث عن الهجرة، وأشار الى وجود شعور بإغراق فرنسا بالمهاجرين، ما أثار، لدى مراقبين، الشُّعور الى الشّبة الكبير بين مفردة الإغراق والاستبدال الكبير التّي يستخدمها إيريك زمُّور واليمين المتطرّف عند التّطرُّق إلى المهاجرين، وهي إيحاء غير مباشر، أيضاً، للوجود المغاربي في فرنسا، والجزائري على وجه الخصوص، لأنّه الأكبر عدداً، ما يدعونا إلى الاعتقاد أنّ الحديث هو للدّفع نحو التّوتُّر أكثر بين الجزائر وفرنسا بإقحام قضايا مثل الهجرة في خضّم أزمة سياسية كبيرة يكون من أحد أسبابها اعتقال قانوني لكاتب في الجزائر (صنصال) واعتقال قانوني، أيضاً، مقابل لمؤثّرين جزائريين، في فرنسا (ستة مؤثّرين)، وهذا من قبيل تضخيم فرنسا الإشكالات بسبب أنّ الجزائر أضحت لا تقبل إلّا بالنّدية في العلاقات وبوجوب احترام سيادية القانون الجزائري، إضافة الى وجوب قبول مطالب الجزائر، خاصّة في ملف الذّاكرة، الملف الرّمز.
خارج الدّائرة الرّسمية، قام اليمين المتطرّف، ممثّلاً بأحزاب وشخصيّات معروفة بعدائها الشّديد للجزائر وحنينها للماضي الاستعماري لفرنسا، بدور القناة التّي حاول الرّسميون الفرنسيون إرسال رسائل شديدة اللّهجة فيها إلى الجزائر في إطار إدارة الأزمة الحالية، وشارك في الحملة مثقّفون وإعلاميون محسوبون، كلُّهم، على التيار الأيديولوجي والسّياسي، ما كان له تداعيات في تعميق الهوّة وعدم إيجاد مقاربات لإعادة المياه إلى مجاريها بين ممثّلي الدّولتين كما يتمُّ، في العادة، عند وقوع توتُّر بين دولتين.
تتعامل الجزائر من خلال دوائر رسمية وتتحدّث عن قوانين يجب أن تُطبق وفق إجراءاتٍ يعرف العالم، كله، أنها سيادية في حقّ من يخالف القانون
بالرُّجوع الى بايرو، الوزير الأول، فقد لاحظ المحللون، في فرنسا، أن كل الحديث الذي أدلى به لقناة تلفزيونية إخبارية كان يدور حول شعور بالإغراق، شعور بوجود عدد كبير من المهاجرين وإذا ذهبنا إلى توسيع ذلك الخطاب وتمديده إلى الطبقة السياسية الفرنسية، نجدها تعتمد على الشعور في توصيف إشكالات العلاقات مع الجزائر، حيث يشعرون بأن صنصال مظلوم، كما يشعرون بأن المؤثرين الموقوفين جزء من مخطّط الجزائر للتأثير على الأوضاع السياسية والأمنية في فرنسا، إضافة إلى شعور اليمين المتطرّف بأنّ ملف الذاكرة إنما هو ذريعة جزائرية للحصول على مصالح، أو للمقايضة في مقابل مواقف فرنسية في ملفات الساحل، ليبيا أو الصحراء الغربية، بل وفي ملفّ مراجعة اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.
بالنتيجة، الموقف الفرنسي الحالي هو تضخيم إعلامي، حديث سياسي مرتكز على الشعور ودعاية باستخدام توقيف قانوني لمؤثرين تجاوزوا حدودهم، حقاً وقانوناً في الحديث، للضّغط على الجزائر، من أجل تغيير موقف قانوني من توقيف كاتبٍ تجاوز القانون ويجب توقيفه، ثم محاكمته كما تقول الجزائر، وفق القانون، لأنها تجاوزات اقترفها في حقّ البلاد التي يجمل جواز سفرها ويقطن فيها، على الأقل إلى حين توقيفه في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
هل يُعقل، بالنتيجة، من ناحية ثانية، إثارة عاصفة وزوبعة من الدّعايات ضد الجزائر بالارتكاز إلى شعور، من دون تمحيص الرؤى وتغيير الإدراكات بشأن المواقف التي تغيّرت في التعامل بين دولتين في العلاقات الدولية بينهما تاريخ، ودم وقضايا شائكة كثيرة يتشاركان فيها، وتستوجب التعقّل في إثارتها وتناولها، أم إنّ مكانة فرنسا المتراجعة وضغط المواقف الدولية (طردها من الساحل، إشكالاتها مع ألمانيا في الاتحاد الأوروبي، تهديد روسيا لها بسبب تصعيدها في الحرب الروسية الأوكرانية، أو بسبب مجيء ترامب وضغوطه، سواء على مستوى حلف الناتو أو ملفّات أخرى تهدّد أوروبا وفرنسا) جعلت الشعور متفوّقاً على الواقع، وربطه بمقاربة التّعامل مع الجزائر؟.
فراغ الساحة السياسية الفرنسية، حالياً، من شخصيات كاريزمية، والتوجه اليميني هو من سمات التغيرات التي طرأت على فرنسا
تلك هي الساحة السياسية الفرنسية، حالياً، من مصادرها، دوائر رسمية وإعلام، في التعامل مع ملف شائك، هو العلاقات مع الجزائر، حيث تتعامل الجزائر، في المقابل، من خلال دوائر رسمية وتتحدّث عن قوانين يجب أن تُطبق وفق إجراءاتٍ يعرف العالم، كله، أنها سيادية في حقّ من يخالف القانون، من دون مرجعية جنسيّته (ملف صنصال)، في حين تعتقد فرنسا أن مجرّد توقيف مؤثرَيْن تجاوزا حدودهما في الحديث، وهذا حقها القانوني السيادي، ذريعة للحديث عن تدخل سياسي جزائري في الشأن الداخلي الفرنسي، ونعت حديث عميد مسجد باريس، بعد إقحامه في التوتر الحالي بين البلدين، بأنه مخالف لقانون اللائكية في فرنسا، في حين أنه لم يقم إلا بالتذكير بالموقف الحيادي للمؤسّسات الدينية في التوترات السياسية، وبأنه لا يجب أن يتمدّد إلى المساس بالإسلام والمسلمين، لأنّ ذلك مساس بانسجام المجتمع الفرنسي وجزء كبير من مسلمي فرنسا مزدوجو الجنسية ومواطنون يجب أن تُحترم حقوقهم في العبادة.
يعرف الجميع أن فراغ الساحة السياسية الفرنسية، حالياً، من شخصيات كاريزمية، والتوجه اليميني هو من سمات التغيرات التي طرأت على فرنسا، وبأنها عوامل صعّبت التعامل مع المواقف والتوترات السياسية، خاصة مع بلد مثل الجزائر، كما يعرف الجميع أن رجال الأعمال في فرنسا واليمين المتطرّف في حالة تحالفٍ للبحث عن مرشّح لرئاسيات 2027. ولهذا جرى تضخيم التوتر مع الجزائر، ويتم، أيضاً، البحث عن كبش فداء للتموقع في سبيل ربح معركة الترشّح، ثم الفوز برئاسة بلدٍ تؤكّد كل المؤشرات أنه في تراجع، ويحتاج تجديد نخبته السياسية، ولكن بواقعية وبراغماتية وليس بالتلاعب، السياساوية والدعائية الشعورية، على غرار ما نراه، اليوم، ويجري تضخيمه إعلامياً وافتراضياً، بصفةٍ تكاد تعصف بتاريخ فرنسا وشخصيتها الدُّولية، بصفة خاصة.
المصدر: العربي الجديد