قرارات مؤتمر النصر السوري… نقطة نظام

علي العبد الله

أصدر مؤتمر النصر، الذي عقدته إدارة العمليات العسكرية في 29 من الشهر الماضي، وضم قادة 18 فصيلاً عسكرياً، قرارات صادمة، أبرزها: تولية أحمد الشرع رئاسة سورية في المرحلة الانتقالية، وقيامه بمهام رئاسة الجمهورية وتمثيلها في المحافل الدولية، وتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، حلّ حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وحظر إعادة تشكيلها، حلّ الأجهزة الأمنية والجيش، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة وبناء جيش جديد على أسس وطنية، حلّ مجلس الشعب، وإلغاء العمل بدستور سنة 2012، حلّ جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية والسياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة. وعكست هذه القرارات توجّهاً سياسياً مختلفاً عن تصريحات وإعلانات سابقة لقيادة إدارة العمليات العسكرية ووزراء في حكومة تصريف الأعمال بشأن المرحلة الانتقالية ومؤتمر الحوار الوطني والمشاركة السياسية، فالقرارات الجديدة ليست على الضد من تلك التصريحات والإعلانات فقط، بل تكاد تكون نقضاً صريحاً لها وتخلّياً جازماً عنها. فقرار تولية أحمد الشرع منصب رئيس الجمهورية في المرحلة الانتقالية أثار تساؤلات بشأن ظروفه، حيث جاء من دون تمهيد أو إعلان مسبق، وبشأن المحدّدات التي حكمت عملية الاختيار، والطريقة التي جرت بها، وخاصة أن التولية جاءت مقترنةً بتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، تفويضاً مفتوحاً من دون ضوابط. وهذا مع عدم وجود قواعد دستورية ناظمة، منحه صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية مثل أي رئيس منتخب شعبيا، عدا عن أن التفويض ذاته انطوى على كسر للعُرف السائد في تشكيل المجالس التشريعية، حيث تشكّل المجالس عادة هيئات تشريعية. وزاد الطين بلّة إعلان الشرع، في خطابه الرئاسي، أنه سيشكّل لجنةً تحضيريةً مهمّتها اختيار أعضاء المجلس العتيد، لجنة تختار وليس هيئة عامة تنتخب؟! فقرار التفويض يُخضع عملية تشكيل المجلس لتقديرات فرد ورغباته وتفضيلاته السياسية والاجتماعية، حسم في خطابه الرئاسي طبيعة النظام السوري الجديد: نظام رئاسي ومركزي، والتي ستتعارض مع مواقف نسبة وازنة من السوريين، حيث ثمّة مطالبات واسعة باعتماد أساليب ديمقراطية ونظام لامركزي.

كان المنطقي أن تبدأ إدارة العمليات العسكرية التشاور مع القوى السياسية والمجتمعية ومنظمّات المجتمع المدني لتأسيس مجلس تشريعي مصغّر من قانونيين وخبراء دستوريين، يضع إعلان مبادئ دستوري ينظّم عمل السلطات الثلاث قبل انتخاب رئيس جمهورية، بحيث يأتي انتخابه استكمالاً للهيكلة وضبط قراراته وممارساته بهذه المبادئ.

ولم يكن لقرار حل حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وحظر إعادة تشكيلها مبرّر موضوعي في ضوء سقوط هذه الأحزاب عمليا وافتقارها عوامل البقاء والاستمرارية، علما أن لاتخاذه تبعات اجتماعية سلبية، كالعزلة والأحقاد، الواقع الوطني في غنى عنها. وينطوي قرار حل الأجهزة الأمنية والجيش، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة وبناء جيش جديد على أسس وطنية، على خطورة أمنية على خلفية تحويل عشرات الآلاف من الضباط وصف الضباط وعناصر اجهزة المخابرات إلى عاطلين من العمل، والدفع بأسرهم إلى الفقر والحرمان، ما قد يدفعهم للمغامرة بإحداث فوضى واضطرابات اجتماعية، إن بسلوك بعضهم طريق الجريمة أو عمل بعضهم ضد النظام الجديد مع قوى تريد إلحاق الأذى به عبر إشاعة مناخ من عدم الاستقرار وتهديد الأمن الوطني، مستفيدين من خبراتهم العسكرية والأمنية. مع الأخذ بالاعتبار أثره السلبي على ترميم النسيج الاجتماعي وإشاعة مناخ لاندماج وطني متين على خلفية البعد الطائفي في الموقف، كون نسبة كبيرة من عناصر الجيش والمخابرات من أبناء الطائفة العلوية. وكانت الحصافة تستدعي أخذ هذه المخاطر بالاعتبار والتعاطي مع الحالة بروية ومرونة والقيام بعملية فرز وغربلة لعناصر الجيش والمخابرات، وتحييد الفاسدين والعدوانيين وإحالتهم على التقاعد ومنحهم راتبا شهريا يطمئنهم لجهة توفير معيشة أسرهم، ويحدّ من اندفاعهم نحو المغامرة والتهور كخطوة في سياق العدالة الانتقالية.

لم يكن لقرار حل حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وحظر إعادة تشكيلها مبرّر موضوعي في ضوء سقوط هذه الأحزاب عمليا وافتقارها عوامل البقاء والاستمرارية

أما بناء جيش جديد على أسس وطنية عن طريق تحويل الفصائل العسكرية إلى جيش محترف فليست وصفة مُجدية، فثمّة تباين واسع بين تأهيل عنصر الفصائل والعسكري المحترف. وكانت الحالة تستدعي مساراً آخر يبدأ بغربلة الجيش القديم وفرز الصالح والطالح ووضع الصالحين بعهدة الضباط وصف الضباط الذين انشقّوا عن جيش النظام لفرزهم حسب الاختصاصات والخبرات التي اكتسبوها في فترة خدمتهم السابقة، وتكوين هيكل لجيش مهني ومحترف، في مرحلة لاحقة يتم إلحاق عناصر الفصائل به، بعد دمجهم معاً ومرورهم في دورات تأهيل على حياة العسكري المحترف، وعلى كيفية التعامل مع المختلف دينياً ومذهبياً وسياسياً تعاملاً لائقاً، كونه سورياً مثله، وإكسابهم خبرات محدّدة، وتوزيعهم على كتائب الهيكل الجديد وألويته. وبهذا الشكل، لا تكون العملية منطقية ومجدية فقط، بل وتعالج تبعات تشكيل جيش من الفصائل العسكرية، وما يمكن أن يثيره من حساسيات وردود فعل في ضوء انتماء هذه الفصائل إلى المذهب السني وتبني معظمها للفكر السلفي.

وكان قرار حل مجلس الشعب، وإلغاء العمل بدستور سنة 2012، يستدعي وضع إعلان دستوري، أو العمل بأحد الدساتير السورية السابقة، قبل اتخاذه، كي لا تقع البلاد في فراغ دستوري، وتكون ممارسات السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، تقديرية واستنسابية، من دون محدّدات وضوابط ناظمة تعمل في ضوئها في المرحلة الانتقالية، ريثما يتم وضع دستور جديد.

وكان قرار حل جميع الفصائل العسكرية والأجسام الثورية السياسية والمدنية ودمجها في مؤسسات الدولة أكثرها تعسفاً، للأسباب التالية: أن الدولة العتيدة لم تعد موجودة فعليا حتى تدمج الأجسام الثورية السياسية والمدنية في مؤسّساتها. لقد أزيلت الدولة عبر قرارات إلغاء دستور 2012 وحل مجلس الشعب وتعطيل القضاء، ودمجها في مؤسّسات الدولة الجديدة، والتي سيستغرق بناؤها وقتا طويلا، سيبقيها معلقة ومعطّلة ويدفعها نحو الترهل والاندثار، وفي هذا خسارة لإمكانيات وخبرات نظرية وعملية. ولأن القرار لم يحدّد من هي الأجسام الثورية السياسية والمدنية المقصودة، أثار الهواجس من شمول الحل منظمّات المجتمع المدني والأحزاب والنقابات التي شاركت في الثورة، وهذا إن حصل سيحرم هذه المؤسّسات من المشاركة في عملية بناء الدولة، عبر إعادة الساحة السياسية إلى نقطة الصفر، علما أن دورها مهم في مرحلة تشكيل الدولة عبر موازنة دور الفصائل العسكرية سلفية التوجّه وتطعيم توجّهاتها وتصوّراتها النمطية برؤى فكرية واجتماعية وسياسية تجعلها أكثر انسجاما مع المعايير القانونية والدستورية.

تستخفّ إدارة العمليات العسكرية وحكومة تصريف الأعمال بالرأي العام السوري، عبر اتخاذ القرارات في غرف مغلقة

تناقش الملاحظات الواردة أعلاه قرارات مؤتمر النصر، لكنها لا تغطّي كل جوانب الموقف/ المأزق الذي أدخلت العملية السياسية فيه، فاختيار قادة الفصائل العسكرية الرئيس وتفويضه بإدارة المرحلة الانتقالية أخذت شكل فرض أمر واقع على الشعب، كان يمكن إخراج العملية بصورة أخرى بطرح الموضوع على القوى السياسية والاجتماعية، ما كان سيجعلها أكثر قبولا وشعبية. وقد أثارت العملية بالصيغة التي جرت فيها هواجس كثيرين ومخاوفهم، وبذرت بذور الريبة والشك في صدقية الوعود والإعلانات التي تطلق حول التشاركية والشمولية.

لماذا تستخف إدارة العمليات العسكرية وحكومة تصريف الأعمال بالرأي العام السوري، عبر اتخاذ القرارات في غرف مغلقة، ووضع السوريين أمام الأمر الواقع، كما عكسه المتحدّث باسم الإدارة العسكرية العقيد حسن عبد الغني بقوله، عند إعلانه قرارات المؤتمر: “إن المجتمعين قرّروا”، أهو لأنهم كما قال الشرع “أعادوا لنا كل سورية”، أم لإدراكهم أن الشعب ما زال في نشوة الخلاص من النظام البائد ولن يعترض على أي قرار يتّخذونه، أم لإدراكهم أنه منهك، ويريد أن يرتاح في كنف الأمن والسلامة، وليس له قوة للاعتراض، حتى لو كان غير مقتنع بالقرارات، أو يرى فيها ضرراً على حياته ومستقبله. وإن كان الأمر على هذا النحو فإنه يزرع ألغاماً بين السلطة والمجتمعات السورية، كلٌّ لاعتباراتٍ تخصّها، وهي وصفة للفوضى وعدم الاستقرار، وقد بدأت بوادرها بالتشكل كما عكستها الشكاوى والتظاهرات ضد الفصل من العمل والتذمّر من ارتفاع أسعار بعض السلع والخدمات وتأخر الرواتب وعدم تنفيذ الوعد بزيادتها.

 المنطقي أن تتشاور إدارة العمليات العسكرية مع القوى السياسية والمجتمعية ومنظمّات المجتمع المدني لتأسيس مجلس تشريعي مصغّر من قانونيين وخبراء دستوريين

كان لافتا أن الشرع قلب في خطابه الرئاسي استحقاقات المرحلة الانتقالية رأسا على عقب، حيث قال إنه سيشكل لجنة تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مؤقت، وبعدها يتم وضع إعلان دستوري، في حين الصواب والبداية المنطقية هي تشكيل مجلس تشريعي مصغّر من هيئة عامة تضم ممثلين عن كل قوى الثورة والمعارضة، يضع إعلانا دستوريا قبل انتخاب رئيس للجمهورية، وقد تحوّل مؤتمر الحوار الوطني، حسب كلامه، إلى مؤتمر تشاوري، لن تصدر عنه قرارات ملزمة. كما كان مستغربا قبوله الوصول إلى كرسي الرئاسة بهذه الطريقة، وعن طريق قوى محدودة من الشعب السوري، ما سيجعل رئاسته تفتقر إلى الشرعية الشعبية. وقد أضاف هذا عاملا جديدا إلى تحفظات واعتراضات مكوناتٍ في المجتمع السوري متعدّدة ومتنوعة ومتباينة في تصوّراتها وطموحاتها.

جاءت قرارات المؤتمر العتيد تنفيذا حرفياً لمقولة “من يحرّر يقرّر”، التي روّجتها هيئة تحرير الشام وحلفاؤها، وقد حاولت أقلام بعض الموالين والمستوزرين ربط القرارات بـ”الشرعية الثورية”، وهي نكتة سمجة، لأن “الشرعية الثورية” تبرّر إسقاط نظام فاسد وظالم خارج الأطر الدستورية، لكنها لا تبرّر ما بعد ذلك إذا جاءت الممارسة خارج المطلوب وطنيا.

… نتمنّى أن لا ينخدع الشرع بالتهاني العربية، ويذهب بعيدا في الانفراد بالسلطة واتخاذ القرارات، فهذه التهاني مرتبطة برغبات أنظمة تريد توجيه المخاض السوري، ودفعه في مسارٍ محدّد، وستنقلب عليه في حال تجاهل ذلك، فيخسر على المسارين الرسمي العربي والشعبي السوري.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى