(1)
اعتاد كثير من السياسيين العمل على التخلُّص من المشكلات التي تواجههم بتصديرها إلى خارج البلاد معتقدين أنهم بذلك يريحون بالهم، ويؤمّنون نظام حكمهم إذ يشغلون الشعب بقضايا أهم وأكبر! لكن، وفي أحيان كثيرة، تخيب حساباتهم فيضيع البلد والحكم معاً.. تماماً كما حصل مع بشار الأسد حين حاصرته احتجاجات السوريين عام 2011 بمطالبها المشروعة فاتهم ملايين السوريين بأنهم أدوات لتنفيذ مؤامرة كونية ضد الوطن، وعلى ذلك رفض نتائج الحوار الوطني، وأغلق منافذه ثم رفض ما عرف بالمبادرة العربية لحلِّ مشكلات نظام والده المزمنة، والتفت إلى الحل الأمني لمواجهة “المؤامرة الكونية” التي تجلت في النهاية بقتل مليون إنسان، وتهجير نصف سكان سوريا، وتدمير مدنهم وقراهم، واستدعى العالم كله على نحو مباشر أو غير مباشر إلى بلاده لا ليبقيه في الحكم فحسب، بل ليزيد في خراب البلد ويسلب ثرواته..!
(2)
ليس ما تقدم موضوع المقالة، بل هو الشاهد المناسب على ما يجري اليوم داخل لبنان (قبل حادث التفجير العظيم) وفيما بينه وبين إسرائيل إذ يحاول كل من بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله استعراض عضلاتهما أمام شعبيهما.. ولكل منهما أسبابه ومسوغاته.. فالأول غارق في الفساد، ومزمن في الحكم، ومتطرف في صهيونيته، وقد عمل كل ما بوسعه للبقاء في الحكم، ففي وجوده أمل بتجاوز المحكمة (وهذا فساد آخر) لكن المستشار الذي عينه نتنياهو بنفسه، يرى الأدلة قوية وثابتة، كل ذلك ناهيكم بصراعات نتنياهو السياسية الداخلية التي برزت خلال الانتخابات الأخيرة، وفي الاصطفاف الذي جرى خلال تشكيل الحكومة! ثم أتى وباء كورونا ليعمق تلك الصراعات، وليدفع الإسرائيليين إلى الشارع محتجين ومطالبين باستقالة نتنياهو الذي اتهم المتظاهرين بالتعدي على الديمقراطية، بيد أنَّ خصمه السياسي وشريكه في تقاسم السلطة يرى في التظاهر جوهر الديموقراطية وروحها!
(3)
إن الاحتقان الداخلي الإسرائيلي الممتلئ بالخوف (الخوف من الإيذاء مهما كان ضئيلاً) يفرغه الحكام الإسرائيليون بالضربات التي تكاد أن تكون يومية خلال السنوات الماضية، وآخرها ليل أمس الأول أي صباح يوم التفجير إذ ضربت مواقع لحزب الله وإيران في سوريا ومثلها كان قبل أسبوعين وتسببت بمقتل عنصر من حزب الله هو “علي كامل محسن” وتوعد الحزب بالثأر، لكنه كالعادة، فضل الرد في الوقت المناسب فالتزم الصمت فجأة، بعد أن اشتغل الإعلام العربي، الموالي لحزب الله على نحو خاص، خلال يومين بالتحليل والتأويل والتوقع وبألف صاروخ تنطلق بآن واحد على إسرائيل..!
(4)
اليوم يعد حسن نصر الله المتصرف الفعلي في لبنان، لكنه المطوق بمزيد من المشكلات.. فهو على دراية تامة بالنتائج التي ترتبها عليه إسرائيل إن هو غامر بفعل ما، فلديه تجربة حرب 2006 التي عاش على ذكراها أربعة عشر عاماً ومكنته أخيراً من احتلال لبنان بالكامل متقدماً إلى الواجهة متحدياً استقالة سعد الحريري الذي يُعدّ بتمثيله المذهبي واحداً من الركائز التي لا غنى عنها في تركيبة الحكم الطائفي اللبناني.. لكنه يدرك جيداً أن وضعه قد تبدل وانكشف حاله، فلن يجد اليوم بعد الجرائم التي ارتكبها في سوريا وغيرها من يساعده على الخراب الذي قد تحدثه ردة فعل إسرائيلية غاضبة.. وقد هددت إسرائيل بضرب البنى التحتية اللبنانية إن تجرأ حزب الله على المغامرة.
(5)
في خمسينيات القرن الماضي وستينياته كان قد أطلق على لبنان اسم سويسرا الشرق الأوسط لكن حزب الله والتيار العوني اللذين أعقبا الوجود السوري الذي بدأ به تخريب لبنان إضافة إلى طبيعة التركيبة الطائفية القائمة على المحاصصة واللصوصية والارتهان للخارج قد حولا لبنان إلى حال لا يحسد عليها، تسببت بنزول اللبنانيين إلى الشارع منذ عدة أشهر في محاولة لإيقاف التدهور واحتجاجاً عليه، رافعين شعار إسقاط التركيبة الطائفية بمجملها سيِّما وأن اتفاق الطائف ينص على العودة إلى الديموقراطية.. لكنَّ مجيء وباء كورونا خفف الضغط على الطبقة الحاكمة لكنه لم ينهه، فالمعاناة اللبنانية المرة تحمل في ثناياها رفض ذلك الشكل من الحكم..!
(6)
بينما المنطقة تتقلب على صفيح ساخن وقد تكشفت مقاومة حسن نصر الله وممانعته بجرائمه في المنطقة وفضحت عورتها حتى أمام أنصاره، ومؤيديه فالواقع أبلغ من أن يتجاهله أي عاقل وصار الحديث على كل شفة ولسان: لا بد أن يفعلها حزب الله.. لا بد من القيام بعملية يسترد من خلالها بعض ماء الوجه الذي يراق يومياً؟ والشيخ الذي أمضى حياته في القتل وعاش عليه يتقلب على جمر الكذب والمخادعة فإلى متى يبقى الزمن المناسب مقنعاً؟!
(7)
في خضم تلك الحال الشائكة التي يعانيها حزب الله وحلفاؤه، واقتراب ظهور إعلان الحكم في قضية اغتيال الحريري التي ستزيد من عزلة الحزب، إذ سيتحرك اللبنانيون من جديد وبأقوى مما كانوا عليه.. يأتي الانفجار الرهيب الذي حوَّل لبنان إلى بلد منكوب، وجلب التعاطف الإنساني العالمي إلى الشعب اللبناني المعروف بنشاطه وإبداعه، وهو الموجود في أنحاء العالم كافة.. وهكذا، وكأنما يد من السحر جاءت تنتشل حزب الله من قاع تلك المآزق التي وضع الحزب نفسه ولبنان فيها..
(8)
ربما لتلك الأسباب تأتي التحليلات لتقول: إن حزب الله وراء عملية التفجير، إذ لسنا في زمن المعجزات ولا في زمن السحر والشعوذة، ولدى من يقول بذلك كل الأسباب المنطقية التي لا ترد. فهو الحزب الوحيد المستفيد من هذه الحال وهو الذي بدأ حياته بالقتل وعاش عليه وسبب للبنان أوجاعاً كثيرة على مدى ثلاثة عقود.. ولا يهمه لبنان في كثير أو قليل إذ هو حزب تابع لولي الفقيه في إيران ويأتمر بأمره..
(9)
ويبقى السؤال الملح: من الذي قام بجريمة التفجير الكبرى؟! أعتقد أنه من السابق لأوانه التكهن بهذا الأمر، في حال غياب فريق دولي يجري تحقيقات دقيقة وخبيرة.. ومع ذلك لا أنفي، فحادثة الطائرة الأوكرانية التي فجرتها إيران ليست ببعيدة عن ذاكرتنا! لكن الجواب الأكثر واقعية هو أنَّ هذا الانفجار قد اختزل المأساة اللبنانية بكاملها التي تكمن في رعونة الطبقة الحاكمة فهي من أوصل لبنان إلى هذا الدرك الذي لم يعرفه لبنان في تاريخه المعاصر! وهي المسؤول الأول والأخير وإذا كانت ستختبئ لأيام أو لأشهر خلف هذه الجريمة فإن اللبنانيين سوف يلملمون جراحهم وينهضون من جديد لترحيل هذه القمامة، وهم قادرون على ذلك..
المصدر: موقع تلفزيون سوريا