ظلّ التنين الصيني في أفريقيا

سمير حمدي

أصبح الوجود الصيني في أفريقيا، في السنوات الأخيرة، موضوعا للبحث لكل من الجهات الفاعلة ومحللي العلاقات الدولية. ظهر الموضوع جزءاً من تفكير أكثر شمولاً بشأن النفوذ الصيني المتصاعد وتأثيراته على جميع العلاقات الدولية. التقدّم الذي حققته الصين في أفريقيا، مع دول أخرى، مثل روسيا والهند وحتى البرازيل، يؤكد للمراقبين الحاجة الملحّة إلى مزيد من متابعة طبيعة الأطراف المتنافسة على التمدّد في المجال الحيوي الأفريقي. وبعيداً عن مبالغات الإعلام الغربي الذي يتحدّث عمّا يسمّيه “الاستعمار الصيني الجديد” في أفريقيا، وهو بالتالي يقدم لعامة الناس صياغة مكثفة ودرامية للقضية الإستراتيجية الجديدة التي يبدو أن “الصين في أفريقيا” تشكّلها، هناك بالفعل حاجة إلى فهم طبيعة الحضور الصيني في القارة الإفريقية وضرورة طرح السؤال: هل أصبحت الصين منافساً يوصف غالباً بأنه غير عادل في أفريقيا للقوى الاستعمارية السابقة؟

لا يمكن إنكار أن العلاقات بين أفريقيا وجمهورية الصين الشعبية تشكل مجالاً رئيسياً للعلاقات الدولية في إطار ما يسمّى بالعلاقات “جنوب- جنوب”، حيث وضعت بكين أولوية سياسة خارجية شاملة تجاه القارّة بأكملها ، بناءً على التصور الاستراتيجي لماو تسي تونغ منذ الخمسينيات.

بعد مؤتمر باندونغ (1955)، بدأت بكين سياسة فريدة تجاه الدول الناشئة نتيجة لتفكك الإمبراطوريات الاستعمارية. لما يقرب من عقدين، بينما كانت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية في أوجها وكانت السياسة الخارجية الصينية تشير إلى عزلة معينة، طوّر ماو تسي تونغ نهجًا نظريًا للعلاقات الدولية اتخذ اسم “نظرية العوالم الثلاثة”. وفقا لماو، يتكون النظام الدولي من ثلاثة مستويات أو “ثلاثة عوالم”: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وجها لوجه، ثم القوى المتوسطة الصناعية والمتقدمة (الغرب واليابان)، وأخيرا العالم الثالث الذي كان وفقًا لماو، يضم الصين ودول العالم المستقلة حديثا، ولا يزال هذا التحليل سائدا حتى يومنا هذا (على الأقل من الناحية الاصطلاحية). وهكذا، فإن السياسة الأفريقية لجمهورية الصين الشعبية قديمة، وقد تميّزت ونُظّمت في البداية من خلال إقامة علاقات دبلوماسية سياسية مميزة (مع مصر جمال عبد الناصر، وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، واتحاد سكان الكاميرون ، والمؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، الحركة الشعبية لتحرير أنغولا، تشاما تشا مابيندوزي التنزاني أو الاتحاد الوطني الأفريقي في زيمبابوي وما إلى ذلك) من أجل تعزيز وتضخيم الهالة “الماوية” (من الخمسينيات إلى السبعينيات)، ثم لتشكل لاحقا، على أساس هذه الروابط السياسية، ملاذًا اقتصاديًا (منذ سبعينيات القرن الماضي) وتقليص الحيز الاستراتيجي التايواني (منذ الخمسينيات).

دمجت بكين القارّة الأفريقية في إستراتيجيتها العالمية وسيلة ضغط ضد الغرب

منذ نهاية التسعينيات تخلت الصين تماما عن الإيديولوجيا في علاقاتها الدولية وفي ذات الوقت سعت إلى إضفاء الشرعية على دورها باعتبارها “دولة نامية كبرى” قادرة على الاستثمار (“دبلوماسية دفتر الشيكات”) وتقديم بديل للدول الاستعمارية السابقة. وهكذا نجحت بكين في منع تشكيل تحالف مناهض للصين في المنظمات الدولية: وبالتالي، فإن الأمر يتعلق بتبديد فكرة “التهديد الصيني” وتشديد القبضة الدبلوماسية حول تايوان لخنقها. وفي بداية عام 2024، تم الاعتراف بتايوان في أفريقيا من قبل دولة واحدة فقط: إيسواتيني (سوازيلاند سابقًا). وبشكل متكرر ومتزايد عقدين، وضعت بكين نفسها في القضايا الدولية الكبرى بينما تشوه سمعة الديمقراطيات الغربية (بمواقفها المتناقضة) وتستفيد من الحياد أو التقارب بين عدد كبير جدًا من الدول الأفريقية.

من الناحية الاقتصادية، نجحت بكين في تعزيز مكانتها باعتبارها الشريك التجاري الرائد لأفريقيا، ثم باعتبارها الدائن الثنائي الرائد في القارة. وقد زاد حجم التجارة الثنائية 30 ضعفا خلال 20 عاما. ومنذ 2009، أصبحت الصين في الواقع الشريك التجاري الرئيسي للقارة الأفريقية، على الرغم من أن التجارة لا تزال منخفضة (لا سيما الاستثمار الصيني في أفريقيا) مقارنة بالتبادل الاقتصادي مع دول آسيا أو أوروبا أو أميركا الشمالية.

صعود الصين في أفريقيا يهزّ التوازنات الجيوسياسية. لقد دمجت بكين القارّة الأفريقية في إستراتيجيتها العالمية وسيلة ضغط ضد الغرب. خلال القمة الصينية الأفريقية التاسعة لمنتدى فوكاك، والتي انعقدت في بكين في خريف عام 2024 (من 4 إلى 6 سبتمبر)، بعد قمّة عام 2021 في داكار (جزئيّاً عبر الفيديو)، تلقت الدول الأفريقية البالغ عددها 53 دولة رسالة سياسية لتعزيز خطوط الصراع الهيكلية “العالم الغربي مقابل العالم غير الغربي”. وفي الواقع، يعتمد النفوذ الصيني في أفريقيا أيضاً على الحضور المكثف في الفضاء المعلوماتي والثقافي، ونشر الخطاب القيمي الصيني، والقرب من النخب السياسية الحاكمة، وإذا كانت أفريقيا مطمعاً ضمن لعبة الأمم الكبرى، فإن بكين تظل في وضع جيد، ولا يبدو أنها في هذه المرحلة تطغى عليها حسابات النزاع في الشرق الأوسط، أو التورّط بشكل مباشر في نزاعات دولية مهما كانت أطرافها. وعلى المستوى الاستراتيجي، يبدو أن بكين وموسكو تعملان بشكل منسّق وليس بشكل متعارض، بل إن التأثيرات التي أحدثتها موسكو تفيد القوة الصينية في تحشيد العداء ضد الغرب، كما أن التواطؤ مع روسيا، سمح لبكين بمزيد التنافس مع الولايات المتحدة في أفريقيا، على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وليزداد نفوذ التنّين الصيني توسّعاً وامتداداً مع الأيام.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى