مرّ زمن طويل، وجرت مياه كثيرة منذ كتب شاعر لبنان خليل حاوي قصيدته “الجسر”، التي صوّر فيها أبناء وطنه وهم “يعبرون الجسر في الصبح خفافاً/ من كهوف الشرق إلى الشرق الجديد”، وضمن قصيدته حفنة أمل في أن يتمكّنوا من اجتياز “الجسر” كي يصلوا إلى العالم، لكنه بدا كما لو كان يُصارع الألم بالأمل.
بعد كومة دواوين وقصائد، شاء حاوي أن يحسم الصراع الذي عاشه في أعماقه، وأن يضع نهاية لحياته ببارودة صيد عشية الاجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982، وهو يتأمّل من شرفته مشهد لبنان “وقد تبخّر وحذف من الخريطة، والأهل لاجئون أو قتلى منطرحون على التراب”، بحسب ما جاء في رسالة منه إلى خطيبته القاصة العراقية ديزي الأمير قبل رحيله.
اليوم، وقد مرّت على رحيل حاوي أربعة عقود، يشرع اللبنانيون في عبور الجسر من جديد في رحلة الألف ميل الطويلة، ولعلهم في هذه المرّة يحققون ما عجزوا عن تحقيقه في السابق، وقد كان الأمل يومض تارّة، ويخبو أخرى، عبر مخاض مملوء بالانتظار والقلق والترقّب امتدّ عقوداً، كانت الدولة في بعض مراحله مقطوعة الرأس، حتى قيّض لها اليوم أن تقترب من استعادة عافيتها بانتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيساً، والخبير بالدبلوماسية والحقوق نواف سلام رئيسا للحكومة، ليكون اللبنانيون بذلك قد وضعوا أقدامهم على الطريق نحو تأسيس لبنان جديد، لبنان مختلف، وقد علّمتهم الأحداث الجسام التي عاشوها أن يعبروا خفافا، وإن أثقلتهم هموم السياسة وألاعيب السياسيين، وقد توافقوا على تصويب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية نتاج حكم الطبقة السياسية المافياوية الفاسدة، وقبل ذلك تكريس الحياة الدستورية وحكم القانون، بما تعنيه هذه المفردة من احتكار الدولة العنف الشرعي، وإعادة الهيبة لها، وإنهاء حقبة استئثار طرف معين بالقرار الفصل على حساب شعبٍ بأكمله، إذ كان هذا الطرف هو من يقرّر متى يأخذ اللبنانيين الى الحرب، ومتى يعيدهم إلى بيوتهم، وهو أيضا من كان يزكّي الرؤساء والوزراء وكبار رجال الحكومة، وهو أيضا من كان يعطّل القضاء متى شاء، ويستورد شحنات السلاح والممنوعات تحت أغطية معيّنة. وعبره كانت إيران تتحكّم بلبنان وبمفاصله الاقتصادية والأمنية، وحتى السياسية منها وفق استراتيجية مشروعها الإمبراطوري الذي فقد فاعليته إثر ما حدث في المنطقة من تحوّلات مزلزلة أدّت إلى تغيير جيوسياسي سوف تظهر آثاره لاحقا.
“اليوم التالي” على قيام “التوليفة” اللبنانية الجديدة لن يكون خالياً من الشباك التي قد تنصبها هذه الجهة أو تلك
في هذه الغضون، وبعدما أدرك حزب الله أن الأمر بدأ يفلت من يديه، شرع يكايد “التوليفة” الحكومية الجديدة مبكراً، محذرا من حدوث “تفكيك وشرذمة وإلغاء وإقصاء تعنّتاً وكيداً وتربّصاً”، جامعاً كل هذه المفردات في عبارة واحدة على لسان رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الله محمد رعد، ليعكس خيبته، ولينعى من حيث لا يدري المشروع الإيراني الذي كان يروّجه في لبنان، وكان المأمول تركيز الحزب، وهو الخارج من معركة خاسرة، على الدعوة إلى الوحدة الوطنية أساساً لتموضعه في المرحلة المقبلة، وخاصة أن هناك توافقاً عربياً ودولياً على أهمية تحوّله إلى حزب سياسي، وأن يتخلى عن جناحه العسكري، وهي العُقدة التي قد لا يمكن حلها عملياً بسهولة، ما دامت إيران المهيمنة على قرار الحزب لا تزال ترفض طرحاً كهذا، وتواصل ضغوطها لإبقاء الحزب متمتّعاً بجاهزيته العسكرية، مع أنها مستعدّة للمساومة عليه إذا ما جرى ذلك ضمن “تفاهم” مع الولايات المتحدة بخصوص الملف النووي الذي عاد إلى الواجهة مع بدء ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
هذا يعني أن حروب الآخرين على أرض لبنان لم تنته بعد، وأن ثمّة أصواتاً مريبة تنظر إلى ما يجري من وقائع باعتباره “مرحلة التقاط أنفاس” يمكنها بعدها أن تستعيد نفوذها وتأثيرها لتأخذ لبنان إلى المربع الأول من جديد، مراهنةً على تداعيات قد تحدُث مستقبلاً.
ويعني أيضاً أن “اليوم التالي” على قيام “التوليفة” اللبنانية الجديدة لن يكون خالياً من الشباك التي قد تنصبها هذه الجهة أو تلك، وإذا كان العقل الدبلوماسي الراحل هنري كيسنجر قد تنبّأ في مقالة له قبل 20 عاماً بأن “لبنان قد يحتاج زمناً طويلاً قبل أن ينجو من الذين يريدون افتراسه”، فما يمكن رصده اليوم أن اللبنانيين عازمون على إنجاز التغيير المطلوب، وقد امتلكوا الإرادة الحازمة على إطاحة أحلام من يروم افتراسهم، وهم ماضون في عبور “الجسر” خفافاً بسلام وأمان.
المصدر: العربي الجديد