![](https://arabiansforum.net/wp-content/uploads/2025/01/GettyImages-2191173935-780x470.jpg)
على مدى قرابة عام ونصف العام من حراك السويداء في سورية قبل سقوط نظام بشّار الأسد، استطاع الرئيس الروحي لطائفة الموحّدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري، أن يقدّم خطاباً وطنياً متوازناً إلى حدّ مقبول، كانت سورية كلّها حاضرة في مطالب هذا الخطاب، فقد كانت “نا” الدالة على الجماعة فيه تُحيل إلى السوريين كلّهم، ويحيل فيه الضمير “نحن” إلى الشعب السوري، لكنّه وبعد سقوط النظام تغيّرت دلالات هذين الضميرين في خطابات الهجري في وسائل الإعلام، فأصبحا يشيران إلى أبناء محافظة السويداء، ولأن هذه المحافظة تتكوّن من أغلبية درزية ساحقة، ولأن الشيخ الهجري هو الرئيس الروحي للطائفة، فإن دلالة “نحن” هنا هي دلالة تشير إلى طائفة بعينها هي طائفة الموحّدين الدروز. اختلاف الدلالة وتحوّلها من دلالة تشير إلى عموم السوريين إلى دلالةً تشير إلى طائفة بعينها، هو انتكاس في الخطاب الوطني، يدلّل على مجموعة واسعة من المخاوف التي لا بدّ لنا من الوقوف عليها لمعرفة ما لها وما عليها.
وممّا يُؤخذ على دلالة “نحن” تلك، أنها تكرّس النفس الطائفي، فالحالة الطائفية في سورية هي أمر واقع، ونكرانها أو التعامي عنها لا ينفي واقعيتها، والمدخل الأول لتجاوز الطائفية وبناء دولة المواطنة هو الخطاب الوطني المتجاوز لكلّ ما يحيل على الطائفية، فكلّ خطاب يحيل (ولو من بعيد) على الطائفية سيكرّسها، ويجعل منها لبنة أساسية في النظام السياسي المنشود، وبالتالي سيكون النظام السياسي نظام محاصصة طائفية، وبالنظر لموقع الشيخ الهجري رئيساً روحياً لطائفة، فهو لا يستطيع أن يكون وزيراً أو رئيساً أو نائباً في البرلمان، أي أنه لا يمكنه أن يكون إلا رئيساً روحياً، وبالتالي فهو يسعى لمزيد من الصلاحيات لرئاسته الروحية تتمثّل في حصر تسمية الوزراء والنواب والمسؤولين (الذين سيكونون من السويداء) به شخصياً، وهذا لن يكون متاحاً له، إلا إن استطاع تكتيل الدروز كتلةً طائفية، ما يعني أنه سيحتكر القرار السياسي للسويداء بشخصه، وهذا أسّ الطائفية والمحاصصة الطائفية.
تكرّس دلالة “نحن” عند الهجري علمانيةً موتورةً متحالفةً مع أقلّيات طائفية ضدّ الإسلام عموماً، وضد الإسلام السياسي بشكل خاص
كما تكرّس دلالة “نحن” عند الهجري علمانيةً موتورةً متحالفةً مع أقلّيات طائفية ضدّ الإسلام عموماً، وضد الإسلام السياسي بشكل خاص. والعلمانية الموتورة في سورية هي خطيرة كخطر الإسلام السياسي الجهادي، ذلك أنها علمانية عدائية ضدّ فئة واسعة من الطيف السوري، وقد رأينا تلك الوفود التي زارت (وما زالت) تزور الشيخ الهجري مشيدةً بمواقفه، فأيّ علمانية، وأيّ علمانيين هؤلاء الذين يرفضون الإسلام السياسي، لكنّهم يهلّلون لرئيس روحي لطائفة، إن تحالفاً كهذا سيدغدغ أحلام الهجري في تكتيل الدروز كتلةً طائفيةً يستفرد بقرارهم من جهة، وسيدغدغ أحلام ومخاوف هؤلاء العلمانيين، من جهة ثانية، في التخلّص من الإسلام السياسي وهيئة تحرير الشام، أو على أقلّ تقدير إضعافها وإرباكها، وهذا أمر خطير جدّاً إن صحّت هذه القراءة، فهو سيدفع الهجري لوضع طائفته في عداء مباشر مع السُنّة، وسيجعل العلمانيين الذين استقووا بالأقلّيات مأسورين لخطاب أقلوي، وبالتالي فالخيارات المتاحة ستصبح إمّا إسلاماً سياسياً على طريقة هيئة تحرير الشام، أو تحالفاً أقلّوياً علمانياً يذهب باتجاه المحاصصة الطائفية، والغائب في كلا الخيارين هو دولة المواطنة ومقولة الشعب الواحد.
وفيها أيضا تكريس الريبة والحذر بين السوريين، فمُجرَّد الانتكاس من الخطاب الوطني إلى الخطاب الفئوي، يثير الريبة والحذر، فمن حقّ السوريين أن يتساءلوا: لماذا انتكس الخطاب إلى هذه الصيغة الأقلّوية الفئوية في مرحلة نحن فيها بأمسّ الحاجة إلى تكريس خطاب وطني عام؟ ولا يخفى على أحد أن هناك فرقاً كبيراً بين أن يعمل السوريون لبناء دولتهم تحت وطأة الحذر من بعضهم، وبين أن يعملوا وهم متأكّدون وواثقون بعضهم ببعض.
لا حاجة للقول إن سلوك الحكومة المؤقّتة، وبعض قراراتها، هي أيضاً مثار ريبة وحذر، وإن إصرارها على تسويق نفسها بهذه الطريقة التي تذكّر السوريين بالإسلام الجهادي التكفيري سيساهم بشكل قوي في دفع العلمانيين للتحالف مع الأقلّيات، وإن تحالفاً كهذا إن حدث، فسيلقى دعماً من بعض الدول، وحينها سنصبح أمام تصدّعات اجتماعية قابلة للتكريس والتعميق وغير قابلة لجسر الهوّة في ما بينها، وهذا أخطر ما قد يتعرّض له السوريون، فالمطلوب الآن من السوريين جسر الهوّة في ما بينهم، ليتمكّنوا من بناء دولتهم الوطنية، وهذا يحتاج إلى مزيد من الثقة والتعاون والحوار الهادئ، لكنّه يحتاج أولاً إلى إنجازات حقيقية للحكومة المؤقّتة تتمثّل بتفعيل دور الشرطة لتحقيق الأمن، وتفعيل الضابطة العدلية والقضاء، وبناء المؤسّسة العسكرية بناءً وطنياً، ويحتاج منها أيضاً إعلاناً واضحاً لرؤيتها للمرحلة وخطّتها للتعامل مع الملفّات المتعلّقة بهذه المرحلة المؤقّتة، وهذا ما لم نشهده.
المصدر: العربي الجديد