بتأخر دام أربع سنوات ونيف، عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، ولكن ليس بالنتيجة الكاملة التي كان يتمناها. في العام 2020 وبعد انفجار مرفأ بيروت، طرح ماكرون مبادرة شاملة لحلّ الأزمة في لبنان، تقوم على إعادة تشكيل السلطة، بدءاً من تشكيل حكومة اختصاصيين، وصولاً إلى فكرة الانتخابات النيابية المبكرة، تأسيساً لإنجاز الانتخابات الرئاسية في موعدها. عاد ماكرون وقد أُنجز الاستحقاق الرئاسي وكُلِّف نواف سلام بتشكيل الحكومة. المبادرة الفرنسية القديمة كانت قد أجهضت. في حينها، تشدد حزب الله برفض الكثير من الشروط، ما دفع برئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب إلى الاعتذار عن تشكيل الحكومة. اليوم يقولها نواف سلام بوضوح، إن لا أحد سيعرقل تشكيل الحكومة، ولن يتم السماح بمنع التشكيل. استعاد ماكرون في جولته الأماكن الجغرافية ذاتها التي زارها في العام 2020، واستعاد في حديثه عبارة “العقد الاجتماعي الجديد”. وهي عبارة تكاثرت التفسيرات والترجمات لها، بينما يقول سلام بوضوح: “الكتاب الذي نلتزم به وننطلق منه مع رئيسي الجمهورية ومجلس النواب هو دستور الطائف”.
ما تغيّر عن 2020
تغيّرت الظروف كثيراً ما بين العام 2020 والعام 2025. موازين القوى في المنطقة تغيّرت. عودة ماكرون إلى بيروت جزء من التأكيد على الحضور الفرنسي، وعلى أن ما كانت تسعى إليه باريس قد تحقق، وإن تغيّر الأشخاص الذين كان تدعمهم أو تؤيدهم. في المقابل، تبدو الظروف الداخلية والخارجية موفِّرة لقوة الدفع اللازمة للحفاظ على انطلاقة العهد من دون عقبات أو عراقيل، من أجل إطلاق مسارات الإصلاح السياسي والمالي والاقتصادي، وإطلاق عملية إعادة الإعمار في الجنوب. لذلك لا يمكن العودة إلى قواعد العمل التي تحكّمت بمسارات مبادرة العام 2020. إذ في حينها، فشل مصطفى أديب بتشكيل الحكومة، وبعدها عجز سعد الحريري عن إنجاز تشكيلته الحكومية، لتعود الكرة إلى حضن الرئيس نجيب ميقاتي، والذي لم يشكّل حكومة اختصاصيين بالمعنى الفعلي للكلمة، ولم تنجح الحكومة في إطلاق مسار الإصلاح المالي أو النقدي أو الاقتصادي أو المصرفي أو السياسي والإداري.
لغة الطائف والدستور
عملياً، هي مرحلة جديدة دخلها لبنان، وفق ما يقول ماكرون. إنها مرحلة لا مجال فيها للشغب أو التعطيل والعرقلة. وذلك ما يفكر فيه الثنائي الشيعي أيضاً، خصوصاً في ظل استشعار عدم توفر موازين قوى للدخول في نقاش حول تعديل الدستور أو الحصول على ضمانات دستورية، خصوصاً أنه في اللغة الرمزية التي اعتمدها رئيس الحكومة المكلف، خلال إطلالته الأولى في قصر بعبدا، رفع الدستور وكتاب اتفاق الطائف. وهما رافقاه في كل استشاراته النيابية غير الملزمة في مجلس النواب، ليعود ويؤكد على هذا المضمون بعد لقائه رئيس مجلس النواب نبيه برّي. إذ شدد سلام على أنه ينطلق في عملية تشكيل حكومته من الالتزام باتفاق الطائف. يأتي ذلك بعد إقدام الثنائي الشيعي على خطوة تراجعية، وهي الاعتراف بأنه لم يكن هناك اتفاق مبرم مع جهات خارجية حول صيغة انتخاب رئيس الجمهورية والثمن المقابل لها. بل أكد الثنائي أن تفاهمات حصلت مع كتل نيابية حول تسمية الرئيس نجيب ميقاتي، ولكن حصل تبدّل ما أدى إلى خسارة مرشح الثنائي الشيعي.
المرونة المطلوبة
هذا الموقف التراجعي فتح الباب أمام تسهيل تشكيل الحكومة والانفتاح على المشاركة فيها، وذلك بعدما هدأت المواقف وبردت الرؤوس. وهو ما أسس للقاء الإيجابي بين سلام وبرّي، لا سيما لجهة النقاش في تصور الحكومة والحرص على التفاهم وعلى مشاركة الجميع فيها. وهذه لها أكثر من وجهة او احتمال. فرئيس الحكومة المكلف لا يريد تكرار التجارب السابقة في تشكيل الحكومات، ولا بالقيام بعملية إسقاط لحكومات سابقة على حكومته مع تغيّر بالأسماء، إلى جانب مشاركته ورئيس الجمهورية في اختيار الوزراء والتفاهم مع القوى الأخرى أو الكتل النيابية. وهنا لا بد للثنائي الشيعي أن يبدي مرونة في آلية التشكيل.
يحرص الثنائي الشيعي على المشاركة في هذه الحكومة، خصوصاً على مسافة أشهر من الانتخابات النيابية المقبل، وفي ظل الإقدام على مشروع لإعادة الإعمار. ولذا، لا خيار أمامه إلا الانخراط في السلطة. هو يضع مطالب واضحة، أبرزها وزارة المال، والتي يفترض أن تبقى لدى الطائفة الشيعية، على أن تتمثل بشخصية غير حزبية وتحظى بالثقة الدولية. وهنا يتم ترشيح اسمي ياسين جابر ووسيم منصوري، بالإضافة إلى المطالبة بحقائب أخرى.
في المقابل، فإن رئيسي الجمهورية والحكومة يتمسكان بتمثيل الثنائي في الحكومة، ولكن ليس على قاعدة احتكار التمثيل الشيعي، لأن منطلقات التشكيل لن تكون وفق المنطلقات السابقة، أو أن التمثيل سيكون بناء على حجم الكتل النيابية وتوصياتها وتوزيعاتها.
الضمانة للجميع
في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن أكثر رئيس للحكومة يمكنه أنه يكون متفهماً بالعمق لهواجس كل المكونات، هو شخص مثل نواف سلام، فهو البعيد عن التملق، وعن مسألة الاستمرار والبقاء في السلطة وتقديم تنازلات في سبيلها، فهو يتجاوز مسألة السلطة. ويمثّل بمشروعه الشخصي طموحاً لإعادة بناء البلد. ولذلك هو يحرص على أن يشكّل ضمانة لحقوق الجميع وليس حقوق الطوائف أو الأحزاب، وما يمكن أن يكرّسه لا يمكن لأحد أن يعطيه أو يمنحه للآخرين في سبيل التملق للحفاظ على السلطة.
أي اتفاق مع سلام، هو بداية فك عزلة البلد، وفكفكة الخصومات ما بين الطوائف، ولا سيما الانقسام العمودي القائم بين الثنائي الشيعي والقوى الأخرى المعارضة له. ما يعني سلوك طريق جديد لمواجهة “التوجسات” القائمة بين الخصوم. ولذلك هي بداية يمكنها أن تكون أفضل آلية لتصحيح علاقة الطوائف وأبنائها مع الدولة.
المصدر: المدن