نحن والغرب ومشكلة الأقليات

د- برهان غليون

يصدم الخطاب الغربي القديم الجديد الذي لا يكاد يركّز على مسألةٍ في عملية الانتقال السوري الصعب أكثر ما يركّز على مسألة الأقليات طيفاً واسعاً من قطاعات الرأي العام السوري التي تريد بأيّ وسيلةٍ الخروج من فخّ الأقليات والأكثريات، وتحاول أن تركّز على مفهوم المواطنة، لتجاوز سياسات التعبئة الطائفية التي اعتمدها النظام القديم، وأخضع من خلالها المجتمع بأكمله لإرادته وأجهزة مخابراته الدموية. وعندما نتحدّث عن المواطنة فنحن نضع التشديد على حرية الفرد واستقلاله وحقوقه المدنية والسياسية، بصرف النظر عن انتماءاته الأهلية الموروثة.

وتأتي الإحالة إلى مسألة الأقليات في السياق الراهن كما لو كانت تشكيكاً بهذا النهج الوطني، وإصراراً على العودة إلى طريق التقاسم الطائفي للسلطة  بشكلٍ أو بآخر، كما جرى من قبل في العراق الذي لم يخرُج من فوضاه، ويستعيد الدولة والسياسة بعد.

أخطر ما يقود إليه التركيز على موضوع الأقليات والمكونات هو تسميم الفكر الوطني في البلدان العربية والإسلامية بمفهوم التجانس الذي سيطر على الفكر القومي الأوروبي في القرن التاسع عشر، وتركيز النظر في مفهوم الأمة على أنها التعبير عن تطابق الهوية السياسية والهويتين الثقافية واللغوية. كان هذا جوهر القومية الألمانية والإيطالية وعديد من القوميات، بما فيها الفرنسية التي استُخدمت من أجل تحقيق هذا التجانس، وقد كانت متعدّدة اللغات والقوميات، الجمهورية بمثابة مدحلة قوية فرضت على الجميع لغة واحدة، وحرّمت عليهم لغاتهم المحلية.

 من الأقليات الى التنوع الديني والإثني

وإذا تجاوزنا مفهوم الأقليات الذي وُلِد في حضن الحركات القومية الأوروبية التي تركّز على التجانس، ولا ترى فيها سوى معيقٍ له وجسم أجنبي، نجد أنّ التعدّد والتنوّع في الجماعات الدينية والقومية هو الحالة الطبيعية في المجتمعات على مرّ التاريخ. وفي الفضاء الحضاري والثقافي المشرقي قبل الإسلام وبعده، تعايشت هذه الجماعات فيما بينها، واستبطنت تعدّديتها الدينية والقومية، ولم تنظر إلى الآخر المختلف في أيّ وقت عنصراً دخيلاً، وإنما شريكاً في الوجود والمصير. ولم يحل اختلاف الدين أو الأصل دون تفاعل الأفراد في نشاطاتهم التجارية والزراعية والثقافية والفنية. يعرف كلُّ فردٍ أنّ في المجتمع طوائف عديدة، لكن الصفات الإنسانية والأخلاقية هي التي كانت معيار العلاقات بين الأفراد في هذه الثقافات.

غذّى التطبيق الآلي لهذا المفهوم للقومية على المجتمعات التي عرفت تاريخًا مختلفًا وتعدّدية بنيوية ودائمة النزاعات، وأدّى إلى إنتاج مذابح إثنية في عديد من البلدان في آسيا وأفريقيا. وقد نجحت البلدان العربية والإسلامية، ربما أكثر من أيّ مجتمعات حديثة أخرى ناشئة، في أن تتجنّب هذا الخلط، وأن تتبنّى مفهوماً مختلفاً ومركّباً للقومية يستوعب التعدّدية الدينية والثقافية، كما يجسّده شعار الدين لله والوطن للجميع. ونشأت فيها وطنياتٌ ترتبط بالولاء للدولة، وتقوى وتضعف حسب تجسيد هذه الدولة إرادة المجموع. والسبب أنها لم تكن ترى في “الأقليات” جماعاتٍ دخيلةً على جماعة نقية وخالصة من كلّ اختلاف، وإنما أصحاب أديان مختلفة، جميعهم أصلاء في بلدهم (وطنهم)، بصرف النظر عن القلّة أو الكثرة. وكان وجود هذه الطوائف وحضورها أمراً معطى لا يمكن إنكاره، وإنما ينبغي استيعابه جزءا لا يتجزّأ من الواقع الاجتماعي السياسي القائم، أي من الدولة ومن الذات السياسية إذا صحّ التعبير. وربما أصبح من الممكن في مجتمعنا الراهن الطامح إلى أن يتشكّل بوصفه أمة من أفراد أحرار متساوين في الحقوق والواجبات أن نستخدم مفردة أطياف دينية وقومية بدلًا من طوائف التي بدأت عُراها هي ذاتها تنحلّ بالفعل ويتراجع وقعها وأثرها في سلوك الفرد بمقدار اندماجه في الحياة العامة الحديثة.

والواقع أنّ أمم الأرض جميعًا، والحديثة منها بشكل خاص، لا يمكن إلا أن تكون مكوّنة من جماعات متنوّعة، ديناً وثقافة وطبقات وفئات اجتماعية، يجمعها التفاهم الأساسي من حول مشروع حياة وطنية يصنعها أفرادها معا. وحتى داخل ما نسميها الأكثرية القومية أو الدينية هناك جماعات متميّزة. والشعب الذي ليس فيه إلا جماعة واحدة مُتطابقة مع نفسها ومُتماهية مع كلّ فردٍ فيها هو شعب بدائي لم يوجد أبدًا أو لم يعد له وجود. بل إننا نجد التنوّع الديني والقومي شديداً في المناطق والبلاد التي شهدت وتشهد تقّدمًا حضًاريا كبيرًا. فالتقدّم/التطوّر يغذّي التمايز والتنوّع داخل الجماعة الواحدة، بل الأسرة الذرية نفسها، كما يجذب الآخرين القادمين من الخارج، وينمّي داخل المجتمعات القدرة على تقبّل الاختلاف واستيعاب التنوّع من دون أن تفقد توازنها.

والبلاد الأكثر تنوّعًا دينيًا وإثنيًا هي التي كانت مهد حضارات كبيرة، مثل الهند والصين والبلاد الإسلامية. وبالعكس، بقيت أوروبا الهمجية تطرد الأقليات الدينية والأقوامية خلال أكثر من ألف عام، وترى فيها خطراً عليها، إلى أن انتهت بتنظيم محارق لم يعرف التاريخ مثيلاً لها للطائفة اليهودية. وهي لا تزال تستخدم ضحاياها اليهود لفرض الاستسلام على بلدان الشرق الأدنى وإجبارهم على الطاعة والتسليم بوصاية الغرب الذي لا يتردّد في أن يعبّر عن كراهيته الإسلام، بعد أن أصبح جزءاً من نسيجه الوطني في أكثر من دولة، في كلّ حرب تُشنّ على شعوبه، ويستمتع بإضفاء صفة الصليبية على حروبه إثارة للأحقاد التاريخية.

لا يوجد اليوم شعبٌ من قومية صافية أو من عقيدة واحدة. وحتى لو لم تكن فيه تعدّدية دينية أو طائفية لا بُدّ أن تولد فيه تيارات ومذاهب مختلفة في نظرتها إلى التراث وتأويلاتها للعقيدة الدينية الواحدة. وبالتالي، لا يوجد شعب من دون اختلاف داخل صفوفه بين فئاتٍ متباينة. وقد كان النزاع بين اليسار واليمين في عديد من مجتمعاتنا في الخمسينيات أشدّ وأعنف منه بين الطوائف الدينية. وحدها القبائل البدائية تعيش في وحدة ثقافية قبلية مغلقة، وتنظر إلى أيّ اختلاف أنه دخيل عليها وتهديد لوحدتها وحرب ضدّها.

وأكثر البلاد تعدّداً إثنيا ودينياً وفكريًا هي اليوم الولايات المتحدة، أي الدولة الأكثر تقدّمًا أيضا في عديد من الميادين العلمية والتقنية والحريات الاجتماعية والسياسية. وهذا التنوّع هو مصدر قوتها وإبداعيتها وديناميكية مجتمعها.

ينبغي أن نكفّ عن تصوّر التنوّع نقمة، كما علّمتنا الفلسفة القومية الغربية العنصرية، فهو نعمة. وينبغي أن نوقف الدول الأجنبية عن العبث بقضيّة “الأقليات” وتهديد هذا التنوّع، الذي يشكّل ثروتنا وهُوّيتنا، لغاياتٍ استعمارية. ليس الغرب هو من رعى عندنا هذا التنوّع، فهو لا يزال يرى في وجود الأقليات، كما يصرّ على تسميتها، على أراضيه نقمة وخطراً ووباء.  بينما عاشت الطوائف المختلفة بحرية في البلاد المتحضّرة في القرون الوسطى، ومنها الإسلامية والعربية، وحافظوا على دينهم وعباداتهم ومصالحهم، قبل تدخّل الغرب في شؤونهم وشؤون شعوبهم واستعمال بعضهم أوراقاً لتحقيق غاياته الاستعمارية خلال مئات السنين، من دون حصول مجازر أو حروب دينية أو قومية.

وأحد أبرز العوامل في تفجير الثورة السياسية في أوروبا كان الحروب التي فجّرها تشبّث الكنيسة بوحدة دينية وعقدية وسياسية مطلقة، وإدانة جميع تيارات الفكر المسيحي الأخرى بالهرطقة ورفض أيّ شكل من التنوّع الديني. وما كان من الممكن وقف هذه الحروب وعقد السلام بعد أن أوشكت أوروبا أن تفقد جزءاً كبيراً من ساكنتها إلا بوضع حدّ لسلطة الكنيسة السياسية ولعقيدتها الواحدية وقبول التعدّدية السياسية والدينية. وفي هذا المخاض، ولدت فكرة الدولة السياسية المستقلة عن سلطة الكنيسة وتقاليدها الواحدية والتكفيرية، فحلّت المواطنة صفةً لأيّ فردٍ يعيش تحت سلطة الدولة، ويتمتّع بالحرية محلّ التابعية وأُمكن تعايش الجميع، والارتقاء إلى مستوى أعلى من الحياة المدنية، حيث يتنافس الأفراد ضمن القانون على احتلال مواقع المسؤولية وتجسيد آرائهم الاجتماعية.

أسّست دولة المواطنة للاعتراف بأهلية جميع الأفراد ليكونوا أعضاء فاعلين ومتساوي الحقوق في الحياة السياسية والاجتماعية، بصرف النظر عن تنوّع اعتقاداتهم وأديانهم. لكن هذه الدولة والمساواة القانونية والسياسية التي تميّزها لم تلغ حقوق الأفراد المدنية الخاصة في الانتماء لجماعاتٍ دينية أو ثقافية أو أحزاب أو قوميات أيضا. فالعام (الاتحادات تحت سلطة القانون) لا يلغي الخاص (الاتحادات الأهلية الدينية وغير الدينية)، بل هو الضامن لممارسة التنوّع بحريّةٍ وضمن حدود احترام حقّ الآخرين في الممارسة ذاتها. والفارق بين التعدّد والتنوّع الذي كانت تُتيحه الدولة الإمبراطورية القديمة، أو السلطنة، والدولة الأمة الحديثة أنّ الأولى كانت تساوي بين جميع الأديان والطوائف بحرمان جميع الأفراد من الأهلية السياسية وحصرها في الأسرة الحاكمة، بينما تقوم التعدّدية في الثانية على المساواة في المواطنة بين جميع الأفراد في السيادة. باختصار، تساويهم الأولى في العبودية والثانية في الحرية.

بين حماية الأقليات والعبث بها

بخلاف ما تشيعه الفرضيات السائدة حول تطوّر مجتمعاتنا السياسية في المشرق، وفي سورية بشكل خاص، ليس تعدّد الأديان والقوميات هو الذي يعرقل نشوء الأمة بالمعنى السياسي الحديث، ولكن استخدام الدول الغربية هذا التعدّد، وربما في المستقبل ممن يقلدها من الدول الإقليمية الطامحة إلى إعادة إنتاج نمط الإمبراطورية الاستعمارية، أي التوسّعية، فمن وراء الحماية المعلنة للأقليات تبرُز سياسات الوصاية على عموم الشعوب. وما تمثله من فرصةٍ للتحكّم وهيكلة هذه الشعوب وحصرها في نماذج طائفية أو شبه طائفية تسهّل السيطرة عليها والتلاعب بمصيرها. فليس من أنشأ المسألة الطائفية، أي سيّس الطائفة الدينية وزوّدها بقيمة سياسية تبادلية، في المشرق، سكانه ولا نخبه الذين تبنّوا غالبا سياسة وطنية، وصاغ بعضهم أكثر الدساتير رقيا في هذا المجال (مثلا دستور أول مملكة سورية عام 1920)، وإنما سلطات الانتداب التي فرضت تقسيم الجغرافيا حسب ما اعتقدت أنها حدود الطوائف والأقليات. فعلت ذلك كلّه، للتمكّن من اللعب على تعدّدية المجتمعات الدينية والمذهبية والقومية للتحكّم بها من الداخل، وحرمانها من حقوق المواطنة الأساسية الفردية والجماعية، أي السياسية والأهلية معا، ومنعها من التقدّم والنمو والنضج. هذا من أحد الأسباب الرئيسة لغياب نموذج الدولة الوطنية في أقطارنا وتقويض شروط إنتاجها، وهو ما لا تزال مجتمعاتنا تعيش عواقبه الوخيمة، وتخوض ثورات متعاقبة من أجل إزالة آثاره المدمّرة للوطنية والسياسة على حدّ سواء.

 استمراراً لهذه السياسة، دعمت أوروبا، من دون أيّ نقد أو شروط، نظام الأسدين في سورية، وراهنت على بقاء نظامهما بذريعة حماية الأقليات. ولم تتخلّ إلا مرغمة عن هذا النظام الذي حذا حذوها في الرهان على تغذية العصبيات الطائفية والأقوامية لتأبيد حكمه وفرض وصايته المطلقة على الشعب. والآن، تُستخدم الورقة ذاتها للضغط على النظام الجديد الذي لم يرسّخ أركانه بعد. وبدلًا من التوسّط لإيجاد حل للمسألة الكردية السورية، تتمسّك أوروبا بحزب الاتحاد الديمقراطي وتشجّعه على الاستمرار في سياسته التي لا يمكن أن تقود، لا إلى حلّ المسألة الكردية، ولا المسألة السورية، وإنما تضع المسألتين في طريق مسدود، فالخلط الذي يصرّ عليه الحزب (وهو فرع لحزب العمّال التركي) وداعموه العرب والغربيون بين قضية الحقوق القومية الكردية المحقّة والعادلة وقضية الإدارة الذاتية المسمّاة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) يشكّل مشكلة حقيقية ليس لها حل. فإذا لم يكن هناك أيّ اعتراض من أغلب السوريين على تمكين الكرد من حقوقهم الثقافية واللغوية والإدارية في المناطق ذات الأكثرية الناطقة بالكردية. في المقابل، هناك استحالة أن تسلّم أيّ حكومة سورية بسيطرة حزب كردي مسلّح بذريعة المسألة الكردية السورية على ثلاث محافظات سورية لا يمثّل فيها الأكراد إلا نسبة ضئيلة من السكان، وهي تضم، بالإضافة إلى ذلك، أهم موارد البلاد الاقتصادية، ولا يكف أغلب سكانها عن السعي إلى تحرّرهم من سطوة المليشيا المُسيطرة. وإذا اعتقد الحزب أنه قادر، بالدعم الدولي، على الحفاظ على هذه السيطرة وإقامة دولة حزب الاتحاد الديمقراطي، كما كانت هناك دولة حزب الله في لبنان، سنكون لا محالة أمام حرب سورية سورية ليست بعيدة شمال شرق الفرات، قد تعطّل، في أيّ لحظة، مرحلة الانتقال السياسي وتدفع البلاد إلى فوضى عارمة. وربما يكون الكرد السوريون أكبر ضحاياها.

لذلك لا يقدّم الغربيون خدمة للقضية الكردية عندما يشجعون فريقاً هو نفسه لا يؤمن بالقضية الكردية القومية، وإنما يستغلها لإقامة إمارة صغيرة في سورية يجرّب فيها فلسفة “ديمقراطية الشعوب” على الطريقة الستالينية، ولكنهم يخدعونهم لتحقيق مآرب استراتيجية في صراعات النفوذ الإقليمية والدولية ويحمّلونهم أثمانًا باهظة. كما أنهم لم يخدموا المسيحيين عندما خوّفوهم من التغيير، ودفعوهم إلى التعاون مع نظام الأسد، وإنما أضعفوا موقفهم السياسي، بعد أن كانوا شركاء أصيلين في حكومات ما بعد الاستقلال الوطنية. ومعظم هجرات هولاء التي عرفتها البلاد السورية لم تحصل بسبب الاضطهاد أو التمييز الداخلي، وإنما بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والانفتاح الغربي عليهم وتقديم المغريات لهم، بالإضافة طبعاً إلى زعزعة ثقتهم بشعوبهم وزعزعة ثقة شعوبهم بهم، وإحداث فجوة بينهم، مع تصاعد حملات الإسلاموفوبيا حتى صار أكثرهم ينظر إلى أكثرية شعبه الأصلي أنها بعيدة عن المدنية ويستحيل تقدّمها، ولا مستقبل للبقاء فيها. هكذا هبطت نسبتهم من السكان في سورية من حوالي 30% في بداية القرن الماضي إلى أقل من 5% اليوم. والنسبة الأكبر لم تُهجّر  تحت حكم الأكثرية المسلمة، وإنما في ظلّ نظم ديكتاتورية وأقلوية دعمت الغرب وشجعته منذ أكثر من نصف قرن. وفي ظروف سياسية مختلفة ومشابهة، لا بسبب الاضطهاد الداخلي، لم يبق من يهود البلاد العربية إلا القليل.

سواء كان هدفها حماية الأقليات أو الاحتماء بها، لم تخدم سياسة التمييز في مسألة الحقوق الإنسانية العامة والوطنية، الأقليات بمقدار ما غشّتها وأساءت إلى علاقات الدول الغربية مع شعوب المنطقة وجمهورها. كلُّ ما نجحت فيه هو دقّ إسفين بين الأقلية والأكثرية الشعبية أملًا بكسب ولائها واستخدامها وسيلة لتعزيز نفوذها على حسابها. وفي أحيانٍ كثيرة، ألّبت شعوبها عليها وتركتها عند المحنة تواجه مصيرها وحدها. هذه ليست سياسة إيجابية. وليست إيجابية سياسة التركيز على حقوق الأقليات وحمايتهم، كما لو كان السوريون من غير الأقليات كلّهم “دواعش”، متهمين سلفًا بكراهية مواطنيهم، بسبب عقيدتهم أو متمسّكين بالتمييز ضدّهم.

وليس هناك، في نظري، سبب للاستمرار في هذه النظرة التحقيرية للشعوب، والعربية منها بشكل خاص، عند الغربيين، سوى صعوبة القطع مع تاريخ السيطرة الاستعمارية وما ضمنته من استباحة الموارد البشرية والطبيعية فيها، والتعويض عن هذه السيطرة الوحشية الفائتة بوصاية سياسية وأخلاقية وفكرية لا تقلّ تهديداً لمسار تقدّم هذه الشعوب ومستقبلها الثقافي والسياسي والاقتصادي عما قامت به السلطة الاستعمارية المباشرة من فتكٍ بالدول والمجتمعات.

من مصلحة الغربيين أن يتوّقفوا عن إنكار الطابع السياسي لهذه الشعوب الذي أرسوا عليه في الماضي القريب شرعية غزوهم الاستعماري البلاد الأخرى منذ أكثر من قرنين، وأن يقبلوا بمنطق المساواة بين الأمم في السيادة على أرضها وتقرير الشعوب مصيرها بنفسها ويتركوا لها أن تحلّ خلافاتها بذاتها وبالطرق السلمية.

وفي اعتقادي، يكسب الغربيون كثيراً إذا نجحوا في التغلّب على مشاعرهم السلبية تجاه الشعوب التي استعمروها سابقاً، وتجاوزوا عاهة نظرهم إلى شعوب المشرق طوائف وعشائر لا رابط بينها، تقف واحدتها في مواجهة الأخرى، سانّة أسنانها، ولا تفكّر إلا في اللحظة التي تسمح لها بالتهام جارتها، وإنّ الأكثرية (المتعصّبة حتما) فيها ستقضي، لا محالة، على الأقلية الضعيفة والمُتسامحة والمجرّدة من أيّ سلاح. ومن مصلحتهم أن ينظروا إليها ويتعاملوا معها منذ الآن بوصفها شعوبًا، أي كيانات سياسية واحدة تعبرها صراعات ونزاعات واختلافات، كما تجمعها قواسم مشتركة وثقافة وتاريخ وشعور بالمصير الواحد وطموح الى التقدّم والترقي ومجاراة الشعوب السبّاقة ومواكبة العصر، مثل الشعوب المتقدّمة الأخرى. ومن مصلحتهم أيضا أن ينظروا إلى الأقليات جزءا من هذه الشعوب، ويقبلوا بتركها تقرّر مصيرها مع بقية أبناء شعبها وتقاتل من أجل حقوقه، من دون أن يصب هذا القتال في كيس الدول الغربية التي تدّعي حمايتها.

هذا هو الأسلوب الصحيح والأخلاقي لإنهاء الاستخدام الأداتي وغير اللائق دائماً بغرب يتبنّى قيم الديمقراطية والمواطنة وحقّ جميع الدول في السيادة لورقة الأقليات، والتعامل معها فقط بوصفها وسيلة للضغط والابتزاز. فبصرف النظر عن أقلياتها وأكثرياتها، ما يجمع الشعوب اليوم ويوحّد إرادتها (ويفرقها ايضا) في جميع القارّات ليس عصبية دينية أو أقوامية، إنما تحصيل الحقوق الإنسانية الأساسية: الحرية والعدالة والمساواة والسعادة الأرضية. هذا هو المحرّك الأبرز للأفراد اليوم بصرف النظر عن أديانهم وطوائفهم وقومياتهم. وهو الذي يولّد الفردية المستقلة، ويدفع إلى التحرّر من ضغط الانتماءات التقليدية، في كلّ مكان. وكما يفسّر أيضاً نجاح الأفراد في تجاوز العصبيات الأهلية التي لم يعد أكثرهم يرى فيها خلاصًا من البؤس والعبودية، وإنما بالأحرى قيداً ينتظر فرصة التخلّص منه، فإنه هو الذي يولّد إرادة الانتقال إلى الدولة الأمة الحديثة، ويغذّي الروح الوطنية.

https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D9%86%D8%AD%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D9%85%D8%B4%D9%83%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%82%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D9%87%D8%A7

المصدر: العربي الجديد/ صفحة برهان غليون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى