يأتي القصف الذي استهدف عمق محافظة إدلب، شمال غرب سورية، وتحديداً مدينة بنش الواقعة شرق مركز المحافظة، وأوقع ضحايا ومصابين، فجر أمس الاثنين، ليفتح الباب مجدداً حول احتمالية استئناف المعارك في المحافظة، من مقدمة تجدد القصف الجوي والمدفعي على مواقع في عمقها من قبل النظام وحلفائه. ويأتي ذلك وسط محاولات النظام، ومعه المليشيات المحسوبة على إيران، والتي باتت توجد بكثرة في مواقع داخل إدلب وعلى خطوط التماس فيها، لإنهاء وقف إطلاق النار الموقع بين روسيا وتركيا، والذي أوقف المعارك وعمليات القصف في عمق المحافظة، قبل أن تُستعاد يوم أمس، على الرغم من الخروقات المتكررة التي كانت سُجّلت على النظام والمليشيات في مواقع قريبة من خطوط التماس، لا سيما جنوب إدلب، وتحديداً في جبل الزاوية. في هذه الأثناء، سجل أيضاَ أمس صدّ المعارضة السورية المسلحة هجوماً للنظام في ريف اللاذقية، وتحديداً في منطقة خاضعة لخفض التصعيد، ما أدى لمقتل عناصر للنظام.
وتسبب القصف فجر أمس، بمقتل ثلاثة مدنيين وجرح سبعة آخرين، جرّاء شن سلاح الجو الروسي خمس غارات، تزامنت مع قصف مدفعي من قبل قوات النظام على أطراف بنش في ريف إدلب الشرقي. وقال مصدر من الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) لـ”العربي الجديد”، إن الطائرات الحربية الروسية شنّت خمس غارات على أطراف بنش، بالتزامن مع قصف مدفعي من قوات النظام، استهدف مخيماً للنازحين في المنطقة الشمالية من المدينة، ما أسفر عن مقتل ثلاثة مدنيين من عائلة واحدة، وإصابة سبعة آخرين بجروح متفاوتة الخطورة، كما أسفر عن حرائق في الخيام وأضرار مادية. ويأتي القصف على المنطقة، على الرغم من سريان وقف النار المتفق عليه بين روسيا وتركيا في الخامس من مارس/ آذار الماضي، خلال قمة موسكو بين الرئيسين الروسي والتركي، فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان.
وكانت قوات النظام والمليشيات التابعة لها قد كثفت في الآونة الأخيرة من عمليات القصف على قرى وبلدات في كل من ريفي إدلب وحماة، قرب خطوط التماس مع قوات المعارضة والجيش التركي المنتشر في إدلب، مستهدفة مناطق عدة في جبل الزاوية جنوب إدلب، وفي سهل الغاب بريف حماة الشمالي الغربي، وهو ما حصل أول من أمس، قبل استهداف بنش. وتركز القصف على المنطقة الواقعة جنوب الطريق الدولي حلب – اللاذقية “أم 4” المار من إدلب، إلا أن دائرته توسعت بشكل لافت فجر أمس، لتشمل بنش الواقعة شمال الطريق الدولي.
ويأتي القصف عقب أنباء عن وصول مزيد من التعزيزات العسكرية للمليشيات المدعومة من إيران، إلى محور سراقب في ريف إدلب الشرقي، وهو محور قريب من مدينة بنش التي تقع على طريق حلب – إدلب. وكانت مصادر ميدانية قد أكدت كذلك في أوقات متفرقة من الشهر الماضي، لـ”العربي الجديد”، أن “الحرس الثوري الإيراني” زاد من حضور المليشيات المرتبطة به على جبهات محافظة إدلب، وفي مقدمتها قوات من “فوج الرضوان”، “كتائب الإمام علي”، إلى جانب “حزب الله” اللبناني. كما تتهم المعارضة المليشيات الإيرانية ومليشيات النظام السوري المدعومة من إيران، بمحاولة تخريب اتفاق وقف إطلاق النار، مشيرة إلى أن تلك المليشيات هي من تقوم بخرق الاتفاق، وبمحاولات التقدم في محاور جبل الزاوية.
إلى ذلك، أعلنت “الجبهة الوطنية للتحرير”، أهم تشكيلات المعارضة المسلحة في إدلب والحليفة لتركيا، عن صدها محاولة تقدم لقوات النظام في محور الحدادة بجبل الأكراد في الريف الشمالي الشرقي لمحافظة اللاذقية. وذكرت الجبهة، في بيان لها، أنها قتلت وجرحت مجموعة من قوات النظام خلال محاولتهم التسلل على محور الحدادة، كما رصدت “العربي الجديد” منشورات على صفحات موالية للنظام تؤكد مقتل عناصر لقوات النظام على جبهة الحدادة، من بينهم ضابط برتبة ملازم أول (نقيب شرف).
وقال المتحدث باسم “الجبهة الوطنية للتحرير”، النقيب ناجي المصطفى، إن “الروس وقوات النظام، إلى جانب المليشيات الطائفية المرتبطة بإيران، زادت من طبيعة الخروقات في الفترة الماضية، والتي ارتفعت خلال اليومين الماضيين، من خلال محاولة تسلل على محور جبهة الحدادة بريف اللاذقية الشرقي، والتي تم التصدي لها من قبل عناصرنا (الجبهة الوطنية) المرابطين في المنطقة، بالإضافة إلى قوات المدفعية، ما أوقع حوالي 15 قتيلاً لقوات النظام، من بينهم ضابط، وأيضاً جاء القصف الجوي والمدفعي على مدينة بنش (فجر أمس)، وكل ذلك ضمن رغبة روسيا وإيران وقوات النظام للتنصل من اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب، مع محاولة إيجاد الحجج والذرائع، التي تدفع نحو ذلك”. وأوضح المصطفى، في تصريحه لـ”العربي الجديد”، أن “الجبهة الوطنية” ردت على قصف بنش وما سبقه من عمليات قصف طاولت قرى في جبل الزاوية أخيراً، التي لا يزال يقطنها الكثير من المدنيين، بـ”استهداف مصادر النيران التابعة للنظام في كل من مدينة سراقب ومحيطها”.
من جهتها، لا تزال الأرتال والتعزيزات العسكرية التركية، مستمرة بالوصول إلى إدلب، انطلاقاً من نقطة كفرلوسين الحدودية مع إدلب، وهي باتت أخيراً تنتشر في مواقع على خطوط التماس مع قوات النظام، بعدما كانت في وقت سابق تتجمع في معسكرات خاصة للجيش التركي في عمق المحافظة، حيث أنشأ الجيش التركي نقاطاً جديدة قرب خطوط التماس، ولا سيما في جبل الزاوية، وعزّزها بالسلاح الثقيل ومدافع الميدان والراجمات، كما عمد للتمركز في مواقع استراتيجية ومرتفعات، منها تلة النبي أيوب، أعلى قمة في جبل الزاوية (940 متراً فوق سطح البحر)، وعزّز نقطته في تلك التلة بمنظومات دفاع جوي بعيدة المدى، علماً أن الجيش التركي أدخل إلى إدلب و”منطقة خفض التصعيد” عموماً، ثلاث منظومات للدفاع الجوي الصاروخي، منها “أتليغان” و”حصار إيه” المحليتان، بالإضافة إلى منظومة “ميم هوك 23” الأميركية، وكل ذلك بعد توقف العمليات في مارس من العام الحالي. ويقدر عدد جنود الجيش التركي في إدلب، بحوالي 15 – 20 ألف جندي، في حين يقدر عدد الآليات بحوالي خمسة آلاف آلية، معظمها من الدبابات والمدرعات ومدافع الميدان المتطورة.
وتحاول تركيا الزج بقوة عسكرية كبيرة إلى إدلب، بهدف إيصال رسائل الردع إلى الطرف الآخر، أي قوات النظام وحلفاؤها الروس والإيرانيون، بأن استئناف العمليات وإنهاء اتفاق وقف إطلاق النار لن يكون من السهل تحمل تبعاته عليهم، في حين يشير مسؤولون أتراك، إلى عزم تركي للحفاظ على ما تبقى من مناطق في إدلب، ولا سيما جنوبها، أمام أطماع قوات النظام الساعية للوصول إلى الطريق الدولي حلب – اللاذقية “أم 4” مروراً بجبل الزاوية ومدينة أريحا ومحيطها. وتحاول تركيا التفاوض من منطلق قوة مع الجانب الروسي، لإجبار النظام على الانسحاب من كامل المناطق التي تقدم إليها منذ إبريل/نيسان 2019 والواقعة ضمن “منطقة خفض التصعيد الرابعة” (إدلب وما حولها) المقرة ضمن تفاهمات أستانة في مايو/أيار 2017 والمثبتة حدودها باتفاق سوتشي في سبتمبر/أيلول 2018 بين كل من روسيا وتركيا، والتي قضم النظام وحلفاؤه مساحات واسعة منها في كل من ريف حماه الشمالي وإدلب الجنوبي والشرقي، وحلب الجنوبي والغربي، على فترات ومعارك متقطعة.
وأشار مصدر سياسي تركي، فضل عدم الكشف عن اسمه، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن “أنقرة هي من أوعزت للفصائل بالرد على القصف الذي طاول مخيماً للنازحين في مدينة بنش، في خطوة للرد بالمثل على مصادر النيران”، مشيراً إلى أن بلاده “تحاول قطع الطريق أمام النظام والروس والإيرانيين، باستخدام أي ذرائع للانقضاض نحو مناطق جديدة بغية قضمها، ولا سيما ورقة الفصائل المتشددة”. ولفت المصدر إلى أن “أنقرة تسعى إلى إعادة ترتيب فصائل المعارضة في إدلب ضمن هيكلية جديدة، في سبيل تنظيم صفوفها، وتحسين تواصلها مع الجانب التركي، بالإضافة إلى ربطها بغرفة عمليات تشرف عليها القيادة التركية”. ولدى الاستفسار عن مكان “هيئة تحرير الشام” ضمن هذه الهيكلية، أشار المصدر، إلى أن “الهيئة” لن يكون لها أي مكان في الهيكلية الجديدة لفصائل إدلب، إن استمرت وفق شكلها الحالي.
وتوقفت المعارك في إدلب و”منطقة خفض التصعيد” الرابعة، التي تضم كامل محافظة إدلب، وأجزاء من أرياف حماة الشمالي والغربي، وحلب الغربي والجنوبي، واللاذقية الشرقي، بعد اتفاق روسي – تركي في الخامس من مارس/آذار يقضي بوقف إطلاق النار، وتسيير دوريات على الطريق الدولي حلب – اللاذقية “أم 4” المار من إدلب، تمهيداً لفتحه أمام الحركة الطبيعية والتجارية. وجاء الاتفاق بعد العملية العسكرية التي شنّها الجيش التركي ضد قوات النظام بمشاركة فصائل المعارضة، تحت مسمى “درع الربيع”، حيث تكبد النظام في آخر أيام الحملة خسائر فادحة في الأرواح، ولا سيما بعد استهداف سلاحه الجوي وإسقاط عدد من طائراته الحربية من قبل طيران “أف 16” التركي، بالإضافة إلى إسقاط مروحيات باستخدام مضادات أرضية للدفاع الجوي. كما تمكنت الطائرات التركية المسيرة (محلية الصنع) من ضرب الخطوط الخلفية للنظام وخطوط إمداده، ما شلّ القدرات العسكرية للنظام بربط الجبهات بين بعضها.
المصدر: العربي الجديد