بعد كلمته التي أعلن فيها، الأربعاء الماضي، التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، فاجأت صحافية الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن بسؤال حول من يستحق أن ينسب إليه الفضل في إنجاز الاتفاق، هو أم دونالد ترامب؟ استدار بايدن نحوها بابتسامة صفراء عجزت عن اخفاء امتعاضه، قائلاً: “أهذه مزحة؟” طبعاً، السؤال لم يكن مزحة أبداً، إذ لا يزالان، الرجل وإدارته، يكافحان لادّعاء بعض الفضل في قبول إسرائيل بعد مماطلة طويلة لاتفاق يقول بايدن إنه ضمن الإطار الذي أعلنه في أواخر شهر مايو/ أيار 2024، والذي أكّد حينها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أقرّه، ويبقى أن تقبله حركة حماس. لم تكد تمضي ساعات قليلة بعد خطاب بايدن وقتها، حتى سارع مكتب نتنياهو إلى إصدار بيانٍ يكذّب عمليّاً ما جاء فيه. ورغم التوسّل الذي قام به مسؤولو الإدارة، بدءاً من بايدن نفسه، مروراً بوزير خارجيته أنتوني بلينكن، ومستشاره للأمن القومي جيك سوليفان، وغيرهم من المبعوثين، اختار نتنياهو أن يذلهم في مناسبات عدة وثقتها وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية. ومع ذلك، لجأت إدارة بايدن لتبرير عجزها وذلِّها أمام عجرفة نتنياهو وحكومته إلى تحميل “حماس” مسؤولية تعطيل الاتفاق.
لكن ديناميات التفاوض تغيرت منذ نجاح ترامب في انتخابات الرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. كان الرجل قد توعد مراراً بـ”جحيم في كل الشرق الأوسط” إذا لم يجر التوصل إلى اتفاق بحلول الوقت الذي سيتولى فيه منصبه في العشرين من يناير/ كانون الثاني الجاري. صحيح أن التهديد كان موجّهاً ضد “حماس” بالدرجة الأولى، ولكنه أضاف أن الجحيم “لن يكون جيداً لأي أحد أيضاً”، ما جعل كثيرين يتساءلون عمَّا إذا كان هذا يشمل إسرائيل أيضاً. هنا ثمَّة خبر مهم تناقله الإعلام الإسرائيلي يفيد بأن مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف اتصل بمساعدي نتنياهو، يوم الجمعة الماضي، من الدوحة، وأخبرهم بأنه سيصل إلى إسرائيل في اليوم التالي. حاول مكتب نتنياهو التذرّع بأن يوم السبت مقدس عند اليهود وبأنه يمكن عقد اللقاء في وقت متأخر من ذلك اليوم، إلا أن ردّ ويتكوف فاجأهم من حيث عدوانيته وحدة لهجته بأن السبت لا يهمه. وفعلاً، عقد اللقاء بينه وبين نتنياهو في خروج عن البرتوكول، ومن هناك بدأت الأمور بالتدحرج قدماً.
لجأت إدارة بايدن لتبرير عجزها وذلِّها أمام عجرفة نتنياهو وحكومته إلى تحميل “حماس” مسؤولية تعطيل الاتفاق
ويتكوف هذا، كما بلينكن وسوليفان، يهودي، ولكنه يشترك مع ترامب في مجال العمل وبعض السمات، فضلاً عن هوايتهما في لعب الغولف. هو مستثمر ومطوّر عقاري، ولا يملك خلفية ديبلوماسية، غير أنه كما ترامب رجل أعمالٍ شرس وعدواني يحبّ إبرام الصفقات بسرعة، ومهما كان الثمن والتحديات. وإذا كان صحيحاً، إلى حدٍّ ما، أن الاتفاق الذي توصل إليه الطرفان، الفلسطيني المقاوم وإسرائيل، الأربعاء الماضي، هو ضمن الإطار الذي كان قد طرحه بايدن في مايو/ أيار الماضي، ووافقت عليه المقاومة الفلسطينية حينها، فإن إسرائيل لم تقبله رغم كل ضغوط إدارته. تحرّكت الأمور بعد تدخل ترامب شخصياً. هذا ما يدركه بايدن، لكن كبرياءه المزيّف لا يسمح له بالإقرار بذلك، ومن ثمَّ حاول الموازنة بين دخول ترامب على الخط ومساعدته في ذلك، على أساس أن إدارته القادمة هي التي ستنفّذ الاتفاق وبين أنه هو الذي استطاع إنجازه.
ليست المعطيات وحدها هي التي تفعل أفاعيلها ببايدن وما أراده ضمن إرثه الرئاسي، فهذا ترامب نفسه يبدّد ما بقي له في وجهه من آخر قطرات دم. “اتفاق وقف إطلاق النار الملحمي هذا لم يكن ليحدث إلا نتيجة لانتصارنا التاريخي في نوفمبر (تشرين الثاني)”، حيث أشار إلى العالم أجمع “أن إدارتي ستسعى إلى السلام والتفاوض على صفقات لضمان سلامة جميع الأميركيين وحلفائنا”. هذا ما كتبه ترامب في تغريدة عبر موقع “Truth Social” قبل أن يلقي بايدن كلمته، الأربعاء الماضي. ولم يوفر الإعلام الأميركي بايدن وهو يذكّر مراراً وتكراراً بالدور الذي لعبه ترامب ومبعوثه في إنجاز الاتفاق عبر الضغط على نتنياهو.
ليرحل بايدن مُهاناً غير مأسوف عليه تلاحقه لعنات عشرات آلاف ضحايا الإبادة الجماعية في قطاع غزّة التي هو شريك فيها
المفارقة الساخرة هنا أن بايدن يعد نفسه خبيراً في السياسة الخارجية، ذلك أنه عمل 12 عاماً رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي أو العضو الديمقراطي الأرفع فيها، كما أنه كان نائباً للرئيس ثماني سنوات في إدارتي باراك أوباما، ورئيساً أربع سنوات. وعندما تسلم الرئاسة في مطلع عام 2021 خاطب العالم قائلاً: “لقد عادت أميركا”، وتعهّد بأن يستعيد “احترام أميركا عالمياً”. لا يسعى هذا المقال إلى اختبار زعم بايدن هذا، مع أن الموضوعية تقتضي القول إن له إنجازات في السياسة الخارجية من منظور أميركي بحت. لكن، على الصعيد الفلسطيني -الإسرائيلي لا يمكن أبداً القبول بزعمه ذاك. لقد قدّم هذا الرجل ما لم يقدّمه رئيس أميركي من قبله لإسرائيل، ما مكّنها من شنِّ حرب إبادة فظيعة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة. وعندما تجاوزت جرائم إسرائيل حتى ما تستطيع واشنطن احتماله حاول بايدن جاهداً الضغط عليها، ولكن نتنياهو تعامل معه ومع مبعوثيه بكل احتقار، ولم يوفر إهانة إلا وألحقها بهم. ماذا كان ردّ بايدن، الذي عرف بتوجيه الشتائم المقذعة في الغرف المغلقة لنتنياهو في غيابه؟ كان يقدّم مزيداً من الدعم العسكري والحصانة الديبلوماسية لإسرائيل! ومن ثمَّ لا عجب أن يشير استطلاع للرأي قبل أيام قليلة إلى أن 32% فقط من المواطنين الأميركيين ينظرون بإيجابية إلى نهجه في السياسة الخارجية. أي إهانة أكبر لدعيِّ خبرةٍ في السياسة الخارجية؟
بعد الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، الأربعاء، اتصل نتنياهو أولاً بترامب لشكره ولترتيب لقاء معه، ثمَّ اتصل ببايدن لشكره على دعمه لإسرائيل. كان البروتوكول الديبلوماسي يقتضي أن يتصل نتنياهو ببايدن أولاً، ذلك أنه ما زال الرئيس حتى الاثنين المقبل، ولكنه يعلم أن بايدن ليس فقط رئيساً منتهية ولايته، بل إنه شخصٌ لا يستحقّ الاحترام. كان بإمكان بايدن أن يمارس ضغوطاً على نتنياهو تُجبره على قبول ما يطلبه منه لو كان يملك الجرأة الأخلاقية والسياسية، ولكنه منحاز فِطرياً لإسرائيل. كما أن بايدن يمثل تجسيداً عملياً لكيف يمكن أن يكون رئيس أميركي تافهاً وبلا وزن ولا قيمة في نظر بعض الخصوم والحلفاء. أما ترامب الغرائزي والنرجسي، فستكون للعبث معه بهذه الطريقة تداعيات. وهذا لا يعني أن ترامب أحسن، أو أن وصوله إلى الرئاسة سيكون لصالح الفلسطينيين، تلك قضية أخرى. الحديث هنا مقتصرٌ على كيف استطاع ترامب أن يجرَّ نتنياهو بالرسن الذي عجز بايدن عن الإمساك به. ليرحل بايدن مُهاناً غير مأسوف عليه تلاحقه لعنات عشرات آلاف ضحايا الإبادة الجماعية في قطاع غزّة التي هو شريك فيها.
المصدر: العربي الجديد