ظهر دونالد ترامب فجأةً، في 26 ديسمبر/ كانون الأول 2018، خلال ولايته الرئاسية الأولى، بين الجنود الأميركيين في قاعدة عين الأسد غربي العراق، للاحتفال معهم بأعياد الميلاد. كانت زيارةً غير معلنة تتجاوز الأعراف الدبلوماسية، وتتعامل مع العراق كأنه منطقةٌ بلا سيادة. في وقتها، كانت الزيارة مُحرجة جدّاً للحكومة العراقية، وحاول رئيس الوزراء العراقي المقرّب من المحور الإيراني، عادل عبد المهدي، إعطاء تبريراتٍ، وفي الكواليس قيل إنه كان ينوي الذهاب إلى قاعدة عين الأسد للقاء ترامب، وذكرت شائعاتٌ إن حواراً من هذا النوع جرى، لكن عبد المهدي هو الذي رفض الذهاب إلى ترامب للقائه.
في كلّ الأحوال، كان الموقف بالغ الإحراج، وتعرّضت الحكومة العراقية وإدارة ترامب إلى انتقادات واسعة في العراق، غير أنه تصرّفٌ لم يكن مفاجئاً للمطّلعين على كواليس العلاقة بين الطرفَين، خصوصاً بعد تشكيل التحالف المقرّب من إيران لحكومته في العراق، في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، وتولِّي ترامب الرئاسة في أميركا قبلها في يناير/ كانون الثاني 2017.
كشف عبد المهدي نفسه، في حوارات صحافية، أن ترامب طلب منه بشكلٍ صريح أن يحدّد العراق اتجاهه، إمّا إلى إيران أو إلى أميركا، ويبدو أن عبد المهدي أوضح لإدارة ترامب ضرورة أن يبقى العراق في المنتصف، ولا يميل إلى أحد الطرفَين، بسبب حساسية علاقته الإقليمية مع إيران. ولكن، هل كان العراق في المنتصف حقاً؟… ربّما لدى الطبقة السياسية الإسلامية الشيعية تفسيرها الخاص للحياد أو الوقوف في المنتصف، غير أن مراقبين من الخارج (بل حتى مراقبين من الداخل) يرون بوضوح كيف أن النفوذ والسيطرة الإيرانيين بلغا ذروتهما خلال حكومة عبد المهدي، كما أن الأجواء العدائية ضدّ أميركا كانت في ذروتها أيضاً، من هجماتٍ على معسكرات فيها متعاقدون أميركيون، إلى استهداف السفارة الأميركية في بغداد، وليس انتهاءً بالتصريحات العدائية في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، التي تطلقها مليشيات عراقية لها حضور في التركيبة السياسية والأمنية الرسمية في العراق.
ربّما كان العراق في المنتصف في زمن حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، الذي حاول إمساك العصا من منتصفها، غير أن هذا “المنتصًف”، في كلّ الأحوال، لم يكن في رأي النخبة الإعلامية والثقافية العراقية والناشطين المدنيين شيئاً إيجابياً. إنه يشير، في أحسن التقديرات، إلى محاولة بلدٍ ضعيفٍ أن يدرأ عن نفسه الآثار السلبية لتدافع قوَّتَين كبيرَتين على جغرافيا هذا البلد، وأن “يتذاكى” ليدّعي أنه يستفيد من كلا الطرفَين في الوقت نفسه.
بلغت ذروة الاستقطاب والأجواء المشحونة خلال ولاية عادل عبد المهدي (غير المكتملة) بسقوط قتلى بين الأميركيين بصواريخ المليشيات، ثمّ استهداف مضادّ لمليشيات أو أفراد في الحشد الشعبي غربي العراق من الأميركيين، أعقبتها تظاهرات لقادة المليشيات حاصرت مقرّ السفارة الأميركية في بغداد، ما اعتبرته الإدارة الأميركية تهديداً وتصعيداً خطيراً. ثمّ مع مطلع عام 2020 أمر ترامب باستهداف سيّارة في شارع مطار بغداد كانت تقلّ قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، ما أدّى إلى مقتلهما مع المرافقين في الحال.
في غالبية النقاشات التي تتعرّض لهذا الاستهداف، يجري وضعه في سياق الصراع الإيراني الأميركي، ويجري تجاهل الطرف العراقي في هذا الصراع، فهو ليس طرفاً وإنما ساحة، على وفق ما يراه الطرفان المتصارعان.
في منطقة المنتصف، كان هناك “طرف” عراقي يخوض تظاهرات عراقية غير مسبوقة في تاريخ العراق الحديث، تحتجّ ضدّ الحكومة العراقية، وسياساتها الخانعة للمحورين، الإيراني والأميركي، على حدّ سواء. المتظاهرون كانوا ينتقدون خضوع العراق للهيمنة الإيرانية، وكانوا من ضمن المستائين من التصرفّات التي تنتهك السيادة العراقية من الأميركان.
مع تولّي ترامب اليوم ولاية رئاسية ثانية، يعاد رسم المشهد ذاته من جديد. هناك مطالبة واضحة من إدارة ترامب للعراق أن يحسم أمره، وأن يكون في صفّ إيران أو أميركا، فلا وجود للمنتصف. أو أن فرضية المنتصف وصلت إلى نهايتها على ما يبدو، وعلى النخبة السياسية العراقية أن تعزّز من حضورها باعتبارها “طرفاً” ذا سيادة في أرضه وقراراته، لا أرضاً لمواءماتٍ وتسوياتٍ بين طرفَين تسلب السيادة العراقية والقرار العراقي، وتجعلهما مُجرَّد مساحة ملحقة لهذا الطرف أو ذاك.
المصدر: العربي الجديد