وانتصر عمّار ديّوب

معن البياري

لم يستخرِج عمّار ديّوب طوال حياته جواز سفر، لا لشيءٍ إلا لأنه لا يريد أن يغادر بلدَه سورية. يُكمل بعد شهور الرابعة والخمسين من عمره، ولم يستقل طائرةً بعد. حدث أن زار لبنان مرّتيْن، برّاً وببطاقة هويته. يقيم في بيتٍ صغيرٍ في ضاحية جرمانا في دمشق التي قدم إليها من مدينته حمص لدراسة الفلسفة في الجامعة السورية (بحسب تسميةٍ قديمةٍ لجامعة دمشق) التي تخرّج منها قبل 28 عاماً، ثم لتدريس الفلسفة في ثانويةٍ لوزارة التربية والتعليم، قبل أن يستقيل في 2016، ليكتفي بعُزلته (النسبية)، في منزله وحيداً، فلا زوجة معه بعد تجربة زواج عشر سنوات انتهت بطلاقٍ، ومن دون أولاد. والعزلة هذه حَذراً من عسس السلطة، وهو الذي كان قد نشط في تنسيقيّات الثورة السورية في أحياء دمشق، واعتُقل أياماً، كما أصدقاءُ وزملاءُ له، ثم أصبح تحت مراقبةٍ طويلةٍ ومزعجة، في المدرسة التي كان يعمل فيها، وفي حركته الخاصة، الأمر الذي جعله، مرّاتٍ، يختبئ ويختفي في منازل أصدقاء ومعارف له. وفي الأثناء، لم يُزاول عملاً سوى كتابة مقالات رأي، بدايةً في صحيفةٍ عربيةٍ أوقفت نشر مقالاته ما إن صادفت اسمَه في “العربي الجديد” التي حافظ على حضوره فيها وحدَها، وارتباطه بها منذ نحو تسع سنوات. وهنا أفتح قوساً، أن السقف العالي الذي اتّصفت به مقالات عمّار في السخط على نظام الأسد، وهي التي تصل إلينا من دمشق، كان مدهشاً، ففيما كان يبعثُ على الإعجاب، سيّما وأن لغة الكتابة عالية، واحترافيّة، كان ثمّة خوفٌ فينا على الكاتب، فهو بين ظهراني نظامٍ سافل. ولمّا كنتُ أدردش معه، بين وقتٍ وآخر، في “فيسبوك” وغيره، كان اثنانا نتحدّث عن لقاءٍ بيننا نتطلّع إليه، في الدوحة، لكنه ظلّ يصرّ على أن اللقاء سيكون في دمشق، فقد كانت ثقتُه بسقوط نظام الأسد مطلقة.

انتصر عمّار ديّوب. ربح رهاناً صعباً ومكلفاً. كان شديد الغضب من المعارضة السورية، كلها، في الخارج، كنتُ أحدِّثُ نفسي بشأن مقالاته عنها، في منبرنا، إنه محقٌّ في بعض المواضع ويبالغ في أخرى. لا يرى ميزةً لشخصه لأنه بقي في سورية، إذ يتفهّم ظروف كثيرين ممن خرجوا حمايةً لأنفسهم أو بحثاً عن أرزاقهم، غير أنه يُحدّثني، هنا في دمشق، حيث التقينا أخيراً، أن كثيرين ليسوا محقّين تماماً في خروجهم. لم ألحظ في شخصه أنه أصيبً يوماً باليأس. ربما تسرّب إليه بعض الإحباط، غير أنه، وهو يكابد ظروف عيشٍ غير مريحة، مثل الدخل المحدود، وانقطاعات الكهرباء، والكآبة العامة في البلاد، ظِلّ بشّار الأسد ومليشياته وأسرته وناسه في الفضاء العام. غير أنه، على ما يقول ويكرّر، ليس وحدًه يعيش هذا الحال، فملايين السوريين في مختلف أنحاء بلدهم يُغالبون هذا كله وأكثر.

حرصتُ الحرص كله على أن أجالس طويلا عمّار ديوب، هنا في دمشق حيث أكتبُ هذه السطور. فرحُه بزوال نظام الأسد لا يوصَف. سخاؤه وبشاشتُه ومزحيّاته في تجوالنا في سوق الحميدية، وبرفقة الكاتبة رانيا مصطفى، ثم في باب توما وأحياء أخرى، وفي أسواق وشوارع في دمشق العتيقة، في بوظة بكداش ومقهى النوفرة و… يشرحُ عن كل زاويةٍ وركنٍ ومعلَم، لا بمنطق موظّفي شركات السياحة، بل بعيْن المثقف الذي يعرف التاريخ والحاضر… يا لفرحته في فجر يوم الأحد، الثامن من ديسمبر/ كانون الأول. كان، كما ملايين في سورية وخارجها، يطارد الخبر تلو الخبر في الأحد عشر يوماً قبل أن ينجلي غبشُ تلك الليلة بدويّ النبأ المُشتهى منذ عقود، فرار بشّار الأسد مع انتهاء حكمه، بعد العملية العسكرية التي فاجأت العالم، وأبهجت عمّار الذي أمهله أصدقاءُ له ثلاث دقائق فقط في ذلك الفجر ليهبط إليهم من منزله ليفرحوا في السيارة في شوارع دمشق وصولاً إلى ساحة الأمويين. وهكذا كان، مع شقشقة ذلك الصباح كانوا هناك، وكان رصاصُ الفرحة الكبرى، وكانت سياراتٌ وحافلاتٌ قد جاءت بمئات السوريين من القنيطرة والسويداء وأطراف دمشق وغيرها.

كنتُ أخاف على عمّار من بطش الأسد. والآن أخاف عليه من بعض خيبةٍ قد تتسلّل إليه، وهو الذي يُسعِده أن تنجح هيئة تحرير الشام في نقل سورية إلى مسارٍ ديمقراطيٍّ وإسعافيٍّ إنقاذيٍّ وأفقٍ إنسانيٍّ وحرّ، لكنه، بنزوعه النقدي العتيد، لا يُعجبه كثيرٌ من قراراتٍ تتّخذها قيادة الإدارة الجديدة، وتعييناتٍ تعلنها. صحيحٌ أنه يرى أن المرحلة الراهنة مفتوحةٌ على خياراتٍ عديدة، لكنه يُجيب عن سؤالي إن كان متشائماً أو متفائلا بأنه حذر… أما أنا فأراني متفائلاً، لأن سورية محظوظةٌ بناسٍ من أهلها بلا عددٍ من قماشة عمّار ديّوب، الرزين الشجاع، النقي الصادق، الوديع كما نحلة، القويّ كما صخرة.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قراءة دقيقة لهواجس وتقييمات مناضل ظل بالوطن تحت بسطار طاغية الشام، ومعاناته من ذلك النظام، نقده لمسيرة السلطة القائمة بدمشق بعد التحرير وإرتجالية وتناقض قراراتها محقة وواقعية، لنقول : نعم سورية محظوظةٌ بالنخب الوطنية أمثال “عمّار ديّوب” ، الرزين الشجاع، النقي الصادق، الوديع كما نحلة، القويّ كما صخرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى