لم يعد القصر الجمهوري خالياً في لبنان. السياسة كما الطبيعة تمقت الفراغ، وعادت حالة من الارتياح والأمل تعمّ البلاد مع انتخاب البرلمان اللبناني جوزاف عون (61 عاماً) رئيساً للجمهورية، بعد عامين ونيّف من الشغور الرئاسي في أكتوبر/ تشرين الأول 2022. أنهى الانتخاب حقبة من خلافات الطبقة السياسية اللبنانية وفشل المشرّعين في اختيار مرشّح عشرات المرّات، والمماطلة في سياق تطورات دراماتيكية. ويمكن للّبنانيين الآن أن يذهبوا إلى مرحلة جديدة بإيجابية ما، بعد أن كان الأفق منذ أسابيع قليلة يبدو مسدوداً في دولة يرثى لها.
ما كانت عملية الانتخاب ممكنةً من دون لحظة من التغيير في موازين القوى في لبنان وسورية والمنطقة استمرت منذ العام 1991، وقد أُضعِف حزب الله بسبب الحرب مع إسرائيل وانهيار نظام بشّار الأسد في سورية، ويؤكّد الدعم للرئيس الجديد عن تراجع نفوذ حزب الله غير القادر على فرض ٳرادته على لبنان بعد غياب زعيمه الأكثر شعبية حسن نصرالله. لكن نجح صاحب “الحرفيّة السياسية المسؤولة” (في المعنى الوطني العام)، نبيه برّي في ٳخراج عملية الهبوط الناعم لحزب الله في الأرض، وفي التفاوض (رغم التمايز والعزلة) على زيادة الآمال بانسحاب ٳسرائيل من الشريط الحدودي، وبتلقّي مساعدات إعمار ما هدمته الحرب. تعتبر الانتخابات الرئاسية في لبنان مهمّة، خطوة أولى لاستعادة المؤسّسات الشرعيّة، فطريقة اختيار رئيس الدولة تعبّر عن توازن القوى في السياسة الداخلية. وعلى الرغم من أن الرئاسة في لبنان رمزية في الغالب، لكنّها تتمتّع بصلاحيات مهمّة رمزاً للوحة الوطنية في بلد لا تزال تطارده الحرب الأهلية، ومن مثل الموافقة على رؤساء الوزراء والوزراء.
حزب الله ليس في وضع يسمح له بالتحدّي، وكان إنهاء الشغور الرئاسي ضرورياً بعد حرب سبّبت أضراراً وخسائر اقتصادية
لم يكن بٳمكان الثنائي الشيعي ٳفشال العملية الانتخابية خاصّة بعد الحرب وتداعياتها والتحديات التي تواجه المجتمع الشيعي. وعلى الرغم من معارضة حزب الله منذ فترة طويلة، والشعور بالقلق ٳزاء العماد عون الذي يحظى بدعم حلفاء لبنان الغربيين والعرب، فٳن حكوماتٍ، بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية، مارست تحرّكات مكثفة وضغوطاً على المشرعين لدعم قائد الجيش، ما أثار اتهامات المنتقدين بالتدخّل الأجنبي. وتعترف الكتل النيابية بأن ثمّة قراراً دولياً خليجياً واضحاً حسم الرئاسة لصالح عون، ولم تستطع القوى السياسية تأكيد خيار أي اسم آخر بفعل الضغط الدبلوماسي الحقيقي، وكلّ رؤساء لبنان يأتون بتأثيرات خارجية منذ العام 1943، لكن المجتمع الدولي ليس لديه مشاريع أيديولوجية تهدد الدولة مثل ٳيران. وكانت الانتخابات ترجمةً للوضع الٳقليمي الجديد، وفي مرحلة انتقالية بين ٳدارتي جو بايدن ودونالد ترامب بالضرورة الفورية للانتخابات، وكسر الجمود في الساحة اللبنانية، وبنداً غير معلنٍ في اتفاقية الهدنة في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 (كان بعضهم ينظر ٳليها أنها بعيدة المنال). حزب الله ليس في وضع يسمح له بالتحدّي، وكان إنهاء الشغور ضرورياً بعد حرب سبّبت أضراراً وخسائر اقتصادية تقدر بنحو تسعة مليارات دولار، وهو يعلم أن لبنان في حاجة ٳلى المال، وأن رعاته الإقليميين غير قادرين على توفيره، والمصدر الوحيد للمساعدات سيكون من دول الخليج العربي، وفي مقدّمتها قطر والإمارات والسعودية.
يعتبر عون، وهو قائد ميداني، أحد الشخصيات الأكثر احتراماً وكفاءة في البلاد، وقد نجح في البقاء بعيداً عن الٳعلام والخلافات السياسية، قائد المؤسّسة الوحيدة التي كانت تعتبر نجاحاً لبنانياً، ولا تزال فاعلةً في الحفاظ على السلم المدني بفضل الدعم المالي، الذي قدّمته قطر والولايات المتحدة وفرنسا. وعلى الرغم من أنه لا ينتمي إلى أيّ حزب سياسي (نموذج فؤاد شهاب)، قد حشد بهدوء الدعم لترشيحه، ومع أنه ليس كثير الكلام، ٳلّا أنه كسر تحفّظه في خطاب “ٳجرائي مدروس”، متحدّياً الطبقة السياسة في تحميلها مسؤولية الحفاظ على الدولة والتزام الجميع مفهوم الخدمة العامّة، وهي لا تستمع لمعاناة الشعب اللبناني الذي أفقرته الأزمات، وتعرّض لهول المخاطر السياسية والاجتماعية والأمنية. ويشير تعهّد عون “ترسيخ حقّ الدولة في احتكار السلاح” بوضوح ٳلى حزب الله، وكذلك العمل على “تطوير استراتيجية وطنية شاملة” لتسليح الجيش اللبناني في مواجهة الاحتلال الٳسرائيلي، و”ٳنهاء عصر المافيات وتجارة المخدّرات والتدخل في القضاء”.
تنفس البلد رئاسياً مع رئيس جديد ذي عقلية ٳصلاحية، قد لا يضمن ٳصلاح لبنان، والتحدّي الأكبر يكمن في رحلة الألف ميل التي تنتظر العهد رئاسياً وحكومياً وسياسياً. لقد كان حزب الله “الدولة العميقة” في ٳدارة سياسة البلاد منذ نهاية الثمانينيّات، لكن ليس القوة الوحيدة على الإطلاق. لذلك من المهم تطوير هذه اللحظة وتحويلها فرصةَ ٳنقاذ شاملة في استعادة الدولة ووجوب تطبيق المبادئ التي نصّ عليها الدستور للحفاظ على الميثاق والوفاق الوطني والنهوض في جملة أوضاع صعبة في ظل وقف ٳطلاق نار غامض ومفتوح للتفسير. والعدو يبرّر لنفسه استمرار الاحتلال والاعتداءات بحسب نظرته ٳلى تنفيذ لبنان لاتفاق الهدنة، وهذا الانتخاب قد يمنحه فرصةً أفضل للتطبيق في مساحة انفتاح من المجتمعين العربي والدولي، قد تستكمل على الجانب الآخر من الحدود في سلام سورية واستقرارها. كانت الرئاسة أكثر ما يحتاج إليها لبنان، وحدة الدولة القانونية، وهي انعكاس طبيعي للوحدة الوطنية المجتمعية، ما يحتّم على المكوّنات اللبنانية الدخول في مراجعة دقيقة والتكيّف مع المتغيرات. لكن ملء موقع رئاسة الجمهورية لا يعني حتماً دخول البلد في مرحلة ابتكار الحلول السحرية في ظلّ سياسات فاسدة تثبت جمودها العنيد، والبلاد تواجه مزيداً من التحدّيات بشأن اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، وٳجراء تعيينات نوعية على قاعدة الكفاءة والنزاهة، وتنفيذ القوانين المجمّدة، وتعيين الهيئات الناظمة للقطاعات الحياتية في اختبار مستقلّ عن الأحزاب انسجاماً مع جهود الدعم العربي والدولي.
انتخابات الرئاسية في لبنان خطوة أولى لاستعادة المؤسّسات الشرعيّة، فطريقة اختيار الرئيس تعبّر عن توازن القوى داخلياً
يختبر عون اللعبة السياسية اللبنانية (ميزان الجوهرجي)، ويتحمّل مسؤولية كبيرة في تنفيذ اتفاق الهدنة، الذي تم التوصل إليه في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. ويعتمد العديد من اللبنانيين على وقف ٳطلاق النار، الذي يتطلّب من حزب الله سحب مقاتليه من الجنوب قبل 26 يناير/كانون الثاني 2025، وهو الموعد النهائي. ذلك أن اختلال موازين القوى يشير ٳلى أن ٳسرائيل قد ترغب في ضمان قدر أكبر من حرّية العمل بعد فترة الستين يوماً. وحزب الله في موقفه الضعيف، يحاول أن يمضي رافضاً الٳقرار بالتغييرات التي تجرده من فائض القوة، وما يسمح له بالاحتفاظ بسلاحه، وهو ليس في وضع يسمح له بالعودة ٳلى حرب مفتوحة، فيما يصرّ الرئيس عون على أن “مصلحة لبنان في الحياد الإيجابي، وأن يبتعد عن كلّ صراعات المنطقة”، الأصعب لم يبدأ بعد، لبنان بلد مقطّع الأوصال، غير قابل للٳصلاح في كلّ شيء، حين تكون الأحزاب قبل المجتمع والدولة، وتعيق التوجّه نحو الحلول اللازمة في شرق أوسط حافل بالضغوط على خلفية عدم اليقين الإقليمي.
المصدر: العربي الجديد