في أغلب البلاد التي زرتها خلال السنوات العشر الأخيرة، وإلى جانب اهتمامي بزيارة عموم متاحفها، حرصت على تخصيص وقتٍ كافٍ لزيارة متاحف “الذاكرة”. إن الغرض من متحف الذاكرة هو القيام بتوثيق أهم الأحداث التي أثّرت بشكل كبير في جزء من المجتمع أو في مجمله. ويسعى من ينشئ مثل هذه المتاح إلى المحافظة على الذاكرة الجمعية وعرضها أمام الزائرين من أهل البلاد ومن السياح المهتمين بتاريخ هذه البلاد. كما يهدف متحف الذاكرة أساسًا، لنشر الوعي لدى الجيل الصاعد وتذكيره بماضٍ ليس ببعيدٍ، وعليه هو وأترابه أن يتعّظوا من دروسه ومن مآسيه لتجنّب تكرارها. كما يُعتبر التكريم هدفًا رئيسيًا يسعى متحف الذاكرة لتحقيقه بخصوص أشخاص بعينهم أو شعوب أو مجموعات. وأخيرًا، من المهم الإشارة إلى أن متحف الذاكرة لا يهدف فقط لعرض مقتنيات، بل خلق تجربة تفاعلية تمس مشاعر الزوار وتحثهم على التفكير في المعاني الأعمق للأحداث.
يتناول هذا النوع من المتاحف أهم الأحداث التاريخية الكبرى مثل الحروب، الثورات، المجاعات، أو الكوارث الطبيعية. كما يمكن أن يتخصّص بحملات الإبادة الجماعية التي تعرّض لها أهل البلد نفسه، أو كان جزء منهم مسؤولاً عن جزء منها في حقبة تاريخية مضت. كما تعتبر متاحف الذاكرة الاستعمارية من أهم ما يجب التوقف عنده حين زيارة الدول التي كان لها باعٌ كبير في هذا المجال. كما فرنسا والبرتغال على سبيل مثال وليس الحصر. وأخيرًا، يمكن لمتحف الذاكرة أن يُخصّص لشخصية عامة شهدت على أحداث بعينها وسجّلت كتابةً أو تصويرًا أو بأية طريقة أخرى، انطباعاتها وشهاداتها الشخصية حول أحداثٍ موثّقة.
عند زيارتي للأرجنتين، زرت مدرسة الميكانيك في بوينس آيرس، والمعروفة بـمدرسة ميكانيكا البحرية. وهي تُعد واحدة من أكثر المؤسسات شهرة في الأرجنتين، ولكن ليس بسبب التعليم الفني أو البحري، بل بسبب دورها المظلم خلال الديكتاتورية العسكرية الأرجنتينية، التي امتدت بين عامي 1976 و 1983. فأثناء هذه الفترة، استخدمت المدرسة كمركز احتجاز وتعذيب سري، حيث أصبحت رمزًا لانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها النظام العسكري. وقد أشارت التقديرات إلى أن حوالى 30 ألف مواطن وأجنبي اختُطفوا واحتُجزوا هناك، واختفى معظمهم. وقد تم رمي جثثهم في المحيط من خلال رحلات للطائرات المروحية العسكرية التي كانت مخصصة لهذا العمل القذر. ولذا، المقبرة الجماعية الوحيدة في الأرجنتين هي المحيط. وبعد نهاية الديكتاتورية وعودة الديمقراطية إلى الأرجنتين، بدأت الجهود لتحويل المدرسة إلى رمز للذاكرة والتذكير بفظائع تلك الفترة. ويضمّ المتحف مركزًا للتثقيف على حقوق الانسان. كما فيه صالات تعرض صورًا للضحايا و/أو شرائط مصوّرة لعمليات اعتقال جماعية وتعذيب. وتعتبر المدرسة من أبرز الأمثلة على كيفية تحويل مكان كان يُستخدم للظلم والقمع إلى رمز للتعليم، التأمل، والعدالة. إنها ليست مجرد مدرسة ميكانيك، بل باتت مرآة تاريخية لتذكير الأجيال القادمة بأهمية حماية حقوق الإنسان.
“استمتعت” متألمًا بزيارة هذا المكان بصحبة دليلٍ نادرٍ تمثّل في شخص مديره حينذاك السيد إدواردو الخزامي، الأرجنتيني لبناني الأصل، الذي غادر الحياة الدنيا منذ عدة أشهر، وهو كان من معتقلي مدرسة الميكانيك. وإدواردو الذي كان في شبابه من رفاق تشي غيفارا، كان له في كل زاوية من زوايا المكان ذكرى يرويها مستعيدًا تفاصيلها بصوت مفعمٍ بالألم وبالأمل. ألم ما عاشه هو رفاقه من مناضلي الحرية في الماضي القريب، والأمل في مستقبل أفضل لأولاده وأحفاده كما لجميع مواطني هذا البلد الجميل.
يحضرني متحف “مدرسة الميكانيك” للذاكرة وأنا أتابع عن بعد مشاهد المعتقلات السورية التي فتحت أو اكتشفت، ومتحف الذاكرة في بيونس أيريس لا يُضاهي غرفة من غرفها. وأتابع العبث بسجلاتها ووثائقها، وهو عبثٌ منطقي خصوصًا لمن انتظر خبرًا عن عزيز له مفقود منذ عقود في سراديب الأمنوقراطية السورية في ظل صمتٍ عربي ودولي مُبان. ولماذا التوقف عنده بالذات على الرغم من زيارتي لمتحف ذاكرة الحرب الأهلية الاسبانية في برشلونة ومتحف المخابرات الألمانية الشرقية في برلين؟
لقد شهدت الأرجنتين بعد حقبة الديكتاتورية حكومات متعاقبة منتخبة فشلت في مجملها في إنقاذ البلاد من الفساد والتخبّط الاقتصادي، وبالتالي فهي مهّدت، أو يكاد، للعودة إلى الماضي. وعلى العكس من ألمانيا واسبانيا مثلاً، فالشعب الارجنتيني، لم يستفد إلا قليلاً من هذه المدرسة على ما يبدو، إذ جرى العام الماضي انتخاب رئيس يميني متطرف يشعر بالحنين لزمن العسكر الدامي ويعد بليبرالية اقتصادية متوحشة، ربما لها أن ترفع من مخزون القطع الأجنبي ومؤشرات السوق، لكنها في المآل الذي وصلت إليه، تُفقر أكثر فأكثر كل الفقراء ومتوسطي الدخل وهم غالبية الشعب. ولا أعرف حتى إن لم يغلق متحف الذاكرة أو أن يكون قد تحوّل الى مركز تجاري كبير.
فالانتصار على الظلم أو إزاحته، من دون الاقتصاص منه في محاكمات عادلة، يمكن أن يُشكّل خطرًا على استمرارية درب التحرر.. وربما عودة إلى الديكتاتورية. كما لا يخلو الأمر من حاملي الحنين لماضٍ قذر من سوريين وعرب ويسار بافلوفي دولي. وحل هؤلاء ليس متاحف الذاكرة، بل وبكل إنسانية، الإقامة فيها في الظروف المعيشية ذاتها التي يرويها من بقي حيًّا من معتقليها السابقين. دورة تدريبية ليس إلا، من دون تعذيب بالتأكيد.
المصدر: المدن