هواجس على هامش حكم أحمد الشرع

إياد الجعفري

قتيبة أحمد بدوي، أحد الأسماء التي يجب أن يقف عندها السوريون، مطوّلاً. ففي زحمة الانشغال بالسياسة وتعقيداتها، تتقدّم الدائرة الضيّقة المحيطة بالنسخة السابقة من أحمد الشرع -الجولاني-، لتمسك بمفاصل الاقتصاد، في عموم سوريا. فـ”المغيرة البنشي”، كما كان يُعرف في نُسخة حكم الشرع لإدلب، كان يومها، أحد أبرز مسؤولي الملف الاقتصادي والمعابر الحدودية، في ذلك الجيب المناوئ للنظام المخلوع. وقد أصبح اليوم، مديراً عاماً للجمارك السورية.

كُثرٌ سيُصوّبون بصورة آنية على الكلمات السابقة، بوصفها من ملامح التوطئة لـ”ثورة مضادة”، أو نقداً مُتسرّعاً، يجافيه التوقيت السليم. وسيقول قائل، من هؤلاء الكُثر، إنه من الطبيعي أن يعيّن الشرع المقرّبين منه، من الموثوقين لديه، للإمساك بزمام الأمور، في هذه المرحلة الانتقالية الخطرة، في تاريخ البلاد. فالنظام المخلوع، له أتباعه، في الداخل، وفي دول الجوار. ناهيك عما يُحاك إقليمياً، على الأرجح، من جانب أطراف غير مرتاحة لما حدث في سوريا.

وكان يمكن لنا الاتفاق بنسبة كبيرة مع هؤلاء الكُثر، لولا التعيينات المرتبطة بالولاء، وفي بعض الأحيان، بالقرابة الشخصية. إذ يُعتقد على نطاق واسع، مثلاً، أن قتيبة بدوي، مدير الجمارك الجديد، هو شقيق زوجة الشرع. لكن الأمر لا ينحصر بهذه الحيثية فقط، بل يتعداها إلى تصريحات وإجراءات تدّل على نيّة الحكام الجدد، الاستفراد بالسلطة على المدى البعيد.

فإذا بدأنا بتصريحات الشرع ذاته، تكفي الإشارة إلى حديثه في لقاء موسّع مع الإعلاميين بدمشق، قبل نحو أسبوع، عن أن حكومة تصريف الأعمال، تضع “الخطوط العريضة” لمستقبل السوريين. وهو تصريح يتضارب مع تكليف رئيس الحكومة محمد البشير، بإدارة فترة مؤقتة تنتهي في آذار/مارس المقبل. تحديد الفترة المؤقتة، بثلاثة أشهر، بحد ذاته، ينبئ بعدم جدّية، أو بتسرّع وتخبط، إن أحسنا النوايا. فرسم “الخطوط العريضة” لمستقبل السوريين، يجب أن يكون مهمة هيئة تمثيلية مُنتَخبة من عموم السوريين. لكن هل من المتاح، ضمن الظروف الواقعية القائمة الآن، الوصول إلى هذه الهيئة، في غضون ثلاثة أشهر!

أيضاً، سيصوّب كثيرون على كلامنا الأخير، استناداً إلى تصريحات الشرع لـ”بي. بي. سي”، والتي تحدث فيها عن مؤتمر وطني جامع للسوريين، سيؤسس مجلساً استشارياً يملأ الفراغ البرلماني والدستوري خلال الفترة المؤقتة. مؤكِّداً قبوله بمبدأ حق الناس في اختيار من يحكمهم ومن يمثّلهم. وهي تصريحات مطمئنة جزئياً، لولا الضبابية التي تلفها، على صعيد التفاصيل، والأهم، على صعيد المواعيد. فإشارة الشرع في التصريحات إياها، إلى عدم توافر البنية التحتية المناسبة لإجراء انتخابات في الوقت الراهن، مقلقة.

النقطة الأخيرة، مثال يدل على سمات حكمت تصريحات وإجراءات الحكم الجديد. فهي توحي بالمدى البعيد لنوايا رجالاته، والضبابية في مخططاتهم، والتخبط في تصوراتهم. مثال آخر على ذلك، حديث رئيس الحكومة البشير، عن زيادة الرواتب بنسبة 300%، فيما وعد الشرع بزيادة تصل إلى 400%. وعود لم يتضح إن كانت مبنية على دراسة دقيقة للإمكانات المتاحة في الخزينة السورية المنهوبة. ناهيك عن مخاطر التضخم المرتقب في حال تنفيذها، من دون حساب مدروس بدقة من اختصاصيين.

ونجد في تصريحات المدير الجديد للجمارك السورية، ما يدل على ما خلصنا إليه، أعلاه. فهو أطل عبر “الوطن أون لاين”، بتوصيف للواقع المزري لمؤسسة الجمارك، إدارياً وفنياً. واستبق هذه الإطلالة بقرار حلّ فيه الضابطة الجمركية بكافة تشكيلاتها ومسمياتها، بنيّة إعادة تشكيلها على الشكل الذي يخدم الصالح العام للبلاد، وفق تعبير القرار الصادر عنه، قبل أيام. أما الضابطة الجمركية ذاتها، فهي غير مأسوف عليها، لدى غالبية عظمى من السوريين. فهي كانت مافيا مختصة بابتزاز السوريين، لا لخدمة صالحهم العام. وهذا موضع إجماع. لكن المشكلة تكمن بالإيحاءات والتناقضات التي تفيض بها تصريحات المدير الجديد للجمارك. فهو تحدث عن إلغاء رسوم جمركية عدة، لتخفيف التكاليف عن كاهل المستوردين، والتي كانت تُضاف إلى أسعار المبيع النهائي للمستهلك. كما وتحدث عن تحرير استيراد السلع من جميع القيود، ولجميع المواد غير الممنوعة بحكم طبيعتها “القانونية والشرعية”. موضحاً أن ذلك سيتحقق عبر “قرارات متتابعة”. الإشارة إلى طبيعة “شرعية” للمستوردات، تفيض بإيحاء “الأسلمة الرسمية” المثير للمخاوف من جانب شريحة كبيرة من السوريين. لكن الأخطر من ذلك، التضارب بين الإشارة إلى “تحرير الاستيراد من جميع القيود”، بالتزامن مع الإشارة في التصريحات نفسها إلى النيّة في إصدار تعرفة جمركية تحفظ حقوق التجار والصناعيين والمزارعين من منافسة البضائع الأجنبية، من خلال “تطبيق سياسة الحماية الجمركية للصناعات والمنتجات المحلية”.

فحديث مسؤولي حكومة الشرع، في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من اجتماع، عن اتجاههم نحو “اقتصاد السوق الحرّ”، أثار قبولاً وترحيباً لدى شريحة من مجتمع الأعمال السوري، تحديداً، التجار. لكنه في الوقت نفسه، أثار مخاوف صناعيين واقتصاديين، من أن يعني ذلك، تحوّل سوريا إلى سوق لتصريف السلع الأجنبية، تحديداً، التركية، على حساب الصناعة المحلية والعمالة المرتبطة بها، والتي تحتاج إلى عناية فائقة، جراء سياسات النظام المخلوع، التي أضرّت بها بشدة، في السنوات الأخيرة.

وما بين “تحرير” و”حمائية”، تتفاقم الضبابية والغموض حول رؤية الممسكين بزمام الأمور في سوريا، اليوم. ضبابية وغموض، يمتدان إلى حقل الاقتصاد، آتيان من حقل السياسة ذاتها. فالشرع، الذي أكد في حديثه لـ”بي. بي. سي”، أنه غير مهتم كثيراً بما يقال عنه في الخارج، وأن ما يهمه هو أن يصدقه الشعب السوري، لم يُكلّف نفسه عناء الحديث بصورة مباشرة وفي حديث مستفيض، لهذا “الشعب” ذاته، عبر وسيلة إعلامية يتابعها، ليوضّح اللبس حول الكثير من تصريحاته ومواقفه وإجراءاته. وبدلاً من ذلك، كانت أبرز إطلالتين له، عبر “سي. إن. إن” الأميركية، و”بي. بي. سي” البريطانية. وركّز فيهما، بصورة أساسية، على هواجس الغرب حياله، لا على هواجس السوريين.

تعقبياً على كل ما سبق، لا تتأتى الهواجس من إدارة الشرع ودائرته الضيقة للمشهد السوري، من تصريحاتهم وإجراءاتهم الراهنة فقط، بل تتأتى كذلك من تجربة حكمهم لنحو سبع سنوات في إدلب، قبل وصولهم إلى دمشق. تلك التجربة كانت أقل وطأة في سلبياتها من نظام الأسد، بمرات. هي حقيقة يمكن الإقرار بها. لكن من حيث النوعية، كان نظام حكم الشرع في إدلب، نسخة ملطّفة من نظام حكم الأسد. حتى أن قتيبة بدوي، المدير الحالي للجمارك، اليوم، كان أحد المُتَهمين يومها بالمسؤولية عن حلقات الاحتكار المعقّدة التي أنشأها في اقتصاد إدلب المتواضع.

ولأننا ما زلنا نراهن على نضج سياسي ورُشد إداري، لدى الشرع شخصياً، ما زلنا نأمل أن يُولّي وجهه شطر مخاوف وهواجس السوريين، وأن يخصهم بحديث وإجراءات تطمئنهم، بأن مستقبلهم الذي يرسم اليوم “خطوطه العريضة”، لن يكون نسخة ملطّفة من ماضيهم في ظل آل الأسد. ويكفي لتنفيذ ذلك، تحديد تصور واضح لفترة حكمه المؤقتة، وحدود مسؤولية رجالاته المعينين في مواقع المسؤولية، بوصفها أدواراً مؤقتة. وتقديم تعهد صريح بذلك. مع الإقرار بحقّه مع من معه بامتلاك طموح حكم سوريا، شريطة أن يكون ذلك نتيجة صندوق الاقتراع، وبقيود قانونية ودستورية، لا أن يكون نتيجة الغلَبة بالقوة المسلحة، وبوصفه أمراً واقعاً.

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى