هي لحظة موت ولحظة ولادة، لحظة موت لنظام فقد عوامل الحياة منذ زمن وبقي متشبثا بالبقاء ليس بقوة الحياة في شرايينه ولكن بقوة مساندة الأطراف الخارجية التي كانت تضخ الدم في عروقه المهترئة.
لقد كان حقا ما قيل من أنه أصبح جثة هامدة وشبحا من الماضي لا يمت للحاضر ولا للمستقبل بصلة.
واليوم وفي لحظة تاريخية فارقة حين لم يعد باستطاعة أطبائه ضخ الدماء في عروقه نراه يواجه مصيره المحتوم بحالة إنكار تقربه أكثر من الموت.
لقد كان نظاما غريبا عن سورية، خارجا كديناصور من مقابر التاريخ، سورية الحضارة والثقافة، سورية الجمال والإنسانية والمحبة، ديناصور يعتش على مص الدماء، وقتل الشعب، ويتمتع بسجنه وتعذيبه.
لقد كان خلال وجوده عقبة في طريق تحرر السوريين بل في حياتهم ومعيشتهم، كان كابوسا جاثما على قلوبهم وعقولهم وكان يدرك ذلك جيدا لكنه لم يدرك أن الشعب السوري قادر ذات يوم أن يكسر قيده وينهي ذلك الكابوس ويعيد لسورية مكانتها بين الشعوب.
” دعوا الموتى يدفنون موتاهم ” قالها السيد المسيح منذ ألفي عام في بلاد الشام, وعلى السوريين اليوم أن لا ينشغلوا كثيرا بدفن نظامهم السياسي الميت, دعونا نحاول نسيان كل تلك الآلام والفظائع التي لا تنسى, وننظر إلى سورية الجديدة التي تولد مع موت هذا النظام.
سورية الجديدة التي تبهر العالم اليوم وهي لم تكد تخرج للنور من الظلام بروحها المتسامحة، بوعيها، برقيها الحضاري، بحبها للحياة والجمال ولكل القيم السامية التي وصلت إليها البشرية في تاريخها الطويل.
سورية التي لم تتمرد على نظام وحشي فقط ولكنها رفضت بإبائها وعظمتها أن يفقدها ذلك النظام طبيعتها وأن تصبح متوحشة مثله في الثورة عليه.
قوية إلى حد الاعجاز في ثورتها لكنها قوة الحق في مواجهة الباطل، قوة الحرية في مواجهة الظلم والعبودية، قوة الروح الحضارية في مواجهة البربرية.
سورية الجديدة لن تنظر للماضي سوى كلحظة عابرة، سوف تضع كل ذكرياته المؤلمة في متحف لتتذكره الأجيال وتمضي نحو المستقبل بخطى واثقة.
سورية التي أنضجتها آلام وعذابات المجازر الدموية وعوالم السجون المظلمة الباردة والتدمير المجنون للشجر والحجر والبشر والغرق في زوارق الهجرة وقسوة الغربة فأصبحت تعرف ما تريد وتكشفت أمامها كل الحقائق المخفية.
هي لحظة انشقاق خيوط الفجر بعد ظلام طويل طويل، ظلام أوصل السوريين لليأس، لكن من قلب اليأس انفجرت عزيمة جبارة لتعيد الأمل بالحياة والمستقبل.
اليوم يولد الشعب السوري من جديد، يولد ليس طفلا بل عملاق يخطف أبصار العالم.
عملاق في وعيه وفي تسامحه وفي عزيمته وقوته.
وفي ولادتها التي بعثتها شجاعة ودماء رجالها الأحرار ونسائها الحرائر تبحث سورية الآن عن عقولها ونخبها المخلصة الواعية لتكون المنارة لطريق المستقبل، نخب من طراز جديد يليق بشعبها العظيم، كما كان المؤسسون الأوائل أمثال يوسف العظمة وشكري القوتلي وهاشم الأتاسي وسلطان باشا الأطرش وتوفيق الشيشكلي وعبد الرحمن الشهبندر.
وعلى تلك النخب أن تنهض دون إبطاء وتتحمل مسؤولياتها التاريخية في لحظة ولادة سورية الجديدة.
قال السيد المسيح ”دعوا الموتى يدفنون موتاهم” وعلى السوريين اليوم أن لا ينشغلوا كثيرا بدفن نظامهم السياسي الميت, لنحاول نسيان الآلام والفظائع التي لا تنسى, وننظر إلى سورية الجديدة التي تولد مع موت هذا النظام. وعلى النخب الوطنية أن تنهض دون إبطاء وتتحمل مسؤولياتها التاريخية في لحظة ولادة سورية الجديدة.