المجال الحيوي للمقاتل وأخلاق «الجونزي»

ماهر الوكاع

نتابع جميعنا عملية «ردع العدوان» التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية وتقودها هيئة تحرير الشام، الفاعل الأساسي في المعركة. وما يثير الدهشة لدينا هو الانهيار السريع لخطوط النظام ومعه المليشيات الإيرانية التي تسيطر على المنطقة منذ ما يزيد عن أربع سنوات.
يحاول أي مراقب إسقاط هذه العملية على أي عمل عسكري سابق لفصائل المعارضة على مدى 13 عاما مضت، حين كانت تُرسم حدود أي معركة مسبقا. نتذكر عشرات المعارك التي كان تأثيرها قاتلا على النظام، ثم يتبعها انهيار مفاجئ للمعارضة لا تفسير له، ويربط في كل مرة بتفاهمات بين «القوى الدولية والإقليمية» المسيطرة على سوريا.
خلال الأيام الماضية، برزت تصريحات تركية تفيد بأن العملية هي رد فعل على اعتداءات النظام وتقع «ضمن اتفاق أستانا 2019». وبدأت استعادة الخرائط لفهم حدود المعركة، متى تتوقف، وعن ماذا ستسفر، وما هي «التوافقات» هذه المرة بين «القوى المسيطرة».
ما يميز هذه المعركة ويثير الاستغراب هو الانسحاب السريع لعناصر النظام. وإذا كانت هناك حالات تقهقر سابقة أعظم من هذه، فيمكن وصف الوضع الحالي بـ«التخلي».
تفيد مصادر ميدانية، استولت على هواتف ضباط وعناصر، بأن المحادثات بينهم تركز على فكرة الخيانة، ليس من السوريين، بل من روسيا وإيران وحزب الله، وأن المعركة «مبيوعة».
يقول العالم كونراد لورنز (Konrad Lorenz) إن العدوانية مرتبطة بعدة عوامل، منها الدفاع عن المجال الحيوي والبحث عن الغذاء والمكانة ضمن الجماعة والتزاوج.
كانت سوريا «مجالا حيويا» لكل السوريين. في بداية الثورة، كان أي مسلح مع أي طرف يتحرك ويقاتل على أي جبهة مدفوعا بزخم متراكم منذ الطفولة. رؤية تم غرسها تقول للمتسلط أو المتماهي معه: حدودك هي حدود البلاد. سمعنا هذا من قيادات النظام في البداية؛ «الأسد أو نحرق البلد» كانت تحدد المجال الحيوي لعناصر النظام بـ«البلد كله».
تغيرت هذه «البديهية» قبل التدخل الروسي بأشهر، وصار مجال المتسلط هو «سوريا المفيدة». ثم توسع بعد «الانتصارات» التي حققها النظام بدعم هائل من حلفائه. وتحدثت لونة الشبل قبل مقتلها عن إدلب كـ «مخفر متقدم» والمعركة الكبرى شرق الفرات، في استعادة نفسية وأيديولوجية للمجال الحيوي القديم.
بعد كل هذه السنوات، تغير بشكل كبير فهم كل سوري لـ«مجاله الحيوي»، بما في ذلك المقاتلون. صار من المستحيل على النظام إعادة تركيب خطاب «مقنع» يتحدث عن السيطرة الشاملة.
فقدان المركز لقوته وتفتتها بفعل الحرب الطويلة، التي لم تفضِ إلى انتصار حقيقي ومكاسب ملموسة، وزّع السيطرة على مراكز واضحة ماثلة في سوريا اليوم. هذا التوزيع السياسي والعسكري والاقتصادي تبعه بفعل الزمن توزيع نفسي، كان له الأثر الكبير على عناصر النظام اليوم. لماذا يقاتل ابن دير الزور، أو الحسكة أو درعا أو اللاذقية على حدود إدلب وحلب؟ ما هو المجال الحيوي له هناك؟ لم يكسب من توسع السيطرة سابقا شيئا يُذكر. لماذا يعيد الكرة؟ إذا لم تقُدْني المعركة إلى مدينتي أو قريتي أو لم أكن أدافع عنها، فما الجدوى؟
تفيد المصادر بأن حزب الله وزّع رسائل مشفرة على مقاتليه في سوريا تطلب منهم الاستعداد للعودة والقتال إلى جانب النظام قريبا لوقف تقدم المعارضة. وهنا أيضا يثار نفس السؤال: ما هو «المجال الحيوي» لمقاتل من «الحزب» في سوريا؟ معركته الأخيرة مع إسرائيل أثبتت أن الرهان على النظام لم يكن مثمرا كما توقعوا، وأن التهديدات الإسرائيلية بإغلاق ما سماه نتنياهو «محور فيلادلفيا الشمالي» مستمرة. قد يذعن النظام مجبرا بخيار البقاء مقدما على الأيديولوجيا.
على الطرف الآخر، هناك خطاب واحد واضح: «أريد منزلي». حتى الحديث عن إسقاط النظام أو الوصول إلى دمشق بات فاتراً. ما يثير الحماس هو رؤية الأطلال أكثر من أي أيديولوجيا. أرضي هي «مجالي الحيوي» وستبقى.

ما ينطبق على المقاتل يعمم على مجتمعه. كانت ظاهرة «التماهي مع المتسلط» في سوريا، إحدى ركائز النظام في تعبئة السوريين ضد بعضهم.
يصفها مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المقهور بـ«آلية دفاعية» يلجأ إليها الفرد في المجتمعات المتخلفة للتكيف مع واقعه. وهي عملية نفسية لا واعية يتقمص فيها الفرد شخصية الآخر، متخذا هويته وخصائصه كوسيلة للتعامل مع القلق والخوف. يتقمص المقهور شخصية المتسلط، معجبا به أو خائفا، بسبب الشعور بالدونية والضعف، ولرغبة في السلطة والنفوذ والخوف من العقاب. فيتبنى قيم المتسلط وسلوكه ويحاكي أسلوب حياته ويبرر أفعاله ويدافع عنه.
صورة المتسلط «بشار الأسد» اليوم مكسورة في أعين ومخيلة مؤيديه. والدليل على ذلك هتافات «بالروح بالدم» الخابية التي رددها عناصره في أثناء قتالهم. وحتى رؤوس «الإعلام الحربي» فقدوا آلية «التماهي»، ويمكن مشاهدة ذلك في فيديوهاتهم التي تتحدث عن معارك اليوم.

يثار أيضا على هامش العملية سؤال آخر عن المقاتل في جانب المعارضة وعن «الأيديولوجيا» وتوقيت المعركة، وهنا يستحضر أخلاق «الجونزي» الصيني.
في عام 638 ق.م، كانت قوات دوق سونغ تستعد لمواجهة جيش تشوو، الذي يفوقهم عددًا وقوة. في أثناء التحضيرات، علم دوق سونغ أن جيش عدوه يعبر نهرا قريبا، واقترح أحد قادة جيشه أن ينتهز الفرصة ويشن هجوما سريعا قبل أن يعبر جيش تشوو النهر بالكامل. رفض دوق سونغ هذه النصيحة بشدة بقوله: «الجونزي الذي يستحق اسمه لا يستغل محنة أعدائه». خسر جيش سونغ المعركة، وتخلت ممالك الصين عن هذه الأخلاق ودخلت في معارك دموية للتوحد لاحقا وتصبح ما نراه اليوم.

المصدر: تلفزيون سوريا

 

زر الذهاب إلى الأعلى