مع الإعلان عن وقف إطلاق النار بين تل أبيب وحزب الله، سارع البيت الأبيض إلى الإعلان عن إحياء الجهود بشأن مفاوضات غزّة، وقد شارك كل من مستشار الأمن القومي جاك سوليفان والمبعوث عاموس هوكشتاين ووزير الخارجية أنتوني بلينكن بإطلاق تصريحات عن إحياء هذا المسار، وتمثلت ذروة هذه التصريحات بما أعلنه الرئيس جو بايدن نفسُه، الأربعاء 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أن إدارته ستبذل في الأيام المقبلة جهداً آخر مع تركيا ومصر وقطر وإسرائيل للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزّة. وقال “نعمل للتوصل لاتفاق يضمن إطلاق سراح الرهائن وإنهاء الحرب في غزّة من دون وجود حماس في السلطة”. وما يلفت النظر في هذه التصريحات تسمية بايدن تركيا طرفا رئيسياً في جهود التفاوض الى جانب مصر وقطر واسرائيل، بيينما الحديث عن سلطة “حماس” على غزّة لا جديد فيه، وسبق أن واظبت واشنطن على ترديده.
وباستعادة وقائع العام الجاري، شاركت تركيا على مدار هذا العام في مفاوضات وقف الحرب على غزّة، غير أن واشنطن عملت على جعل هذه المشاركة متقطّعة وغير مباشرة، وهو ما كشفه تقلّص زيارات الوزير بلينكن إلى أنقرة خلال جولاته على المنطقة، وقد انعكس برود العلاقات التركية مع إدارة بايدن على مسار مشاركة أنقرة في ملفّ مفاوضات غزّة. وقد قابل المسؤولون الأتراك هذا التقلب الأميركي بمزيد من الحملات السياسية والدبلوماسية على اقتراف المجازر في غزّة، وقطع العلاقات التجارية مع تل أبيب، والتركيز على المطالبة بحظر تزويد إسرائيل بالأسلحة، وتحذير الأخيرة من محاولة المساس بقادة حركة حماس لدى زياراتهم تركيا، وكان جديد مظاهر التصعيد أخيراً منع طائرة الرئيس الإسرائيلي، إسحق هرتسوغ، من عبور الأجواء التركية نحو أذربيجان، للمشاركة في مؤتمر المناخ الذي انعقد في باكو أواسط نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، ما أدّى إلى تعطّل مشاركة هرتسوغ في المؤتمر.
تتطلع واشنطن، ومعها تل أبيب، إلى إحياء العلاقات التركية الإسرائيلية التي شهدت انهياراً خلال هذا العام
على أن أنقرة وبموازاة اتخاذها هذه الإجراءات الحازمة، واظبت على إبداء استعدادها للانخراط في جهود الوساطة بخصوص مفاوضات غزّة، وقد اقترحت، على لسان وزير خارجيتها هاكان فيدان، أن تلعب بلاده، إلى جانب الأطراف الأخرى، دوراً ضامناً في إنجاح أي اتفاق يتم التوصل إليه، والسهر على سلامة تنفيذه، كما دأبت أنقرة على التشاور المستمر مع مصر وقطر بخصوص جهود الوساطة، إلى أن تعطلت المفاوضات نتيجة المماطلات الإسرائيلية ووضع العراقيل أمام أي مشروع اتفاق. وأوضح العراقيل هي تلك وضعها نتنياهو أمام مقترحات بايدن في مايو/ أيار الماضي، غير أن واشنطن دأبت بصورة أتوماتيكية على اتهام حركة حماس بعرقلة مشاريع الاتفاق، بالرغم من أن مسؤولين إسرائيليين، على جميع المستويات، قد أقرّوا، في مناسبات عدّة، بأن نتنياهو هو من يُفشّل مشاريع الاتفاقيات، وأنه غير منشغل باستعادة الأسرى الإسرائيليين بقدر تركيزه على إطالة أمد الحرب.
هناك حالياً ما يسمح بالاعتقاد بأنه بعد أن نجحت إدارة بايدن في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، فإن هذه الإدارة تطمح، في الأسابيع المتبقية على ولايتها، لإنجاز اتفاق مماثل يوقف الحرب على غزّة. ولن يكون مفاجئاً تكليف المبعوث هوكشتاين بقيادة الجهد الأميركي، بعد نجاحه في بيروت وتل أبيب، إلى جانب مدير المخابرات المركزية وليام بيرنز، وعلى أمل الحد من تلطّخ سمعة هذه الإدارة بالضلوع في حرب الإبادة، وفقاً لما أقرّت به الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، وكي لا يحظى الرئيس المنتخب دونالد ترامب بهذا الإنجاز. ومن أجل هذا كله، يتم اجتذاب تركيا للمشاركة بصورة رسمية ونشطة في جهود الوساطة جنباً إلى جنب مع مصر وقطر وأميركا. وواقع الحال أن لواشنطن مصلحة كبيرة في هذا التطوّر، فأمام الحركة الواسعة لأنقرة باتجاه روسيا والصين وفي أفريقيا وجمهوريات آسيا الوسطى ونحو منظمة بريكس، فإن واشنطن معنيّة بالحفاظ على تموضع تركيا داخل حلف شمال الأطلسي (ناتو)، والحفاظ على الطابع الاستراتيجي لعلاقاتها مع أنقرة رغم سائر التحدّيات. فيما تتطلع واشنطن، ومعها تل أبيب، إلى إحياء العلاقات التركية الإسرائيلية التي شهدت انهياراً خلال هذا العام، فيما شهدت الحياة السياسية التركية والرأي العام هناك، مزيداً من التمسّك بالحقوق الفلسطينية، حتى غدت هذه الحقوق قضية داخلية وقومية في بلاد الأناضول. ولا شك أن اجتذاب تركيا لجهود الوساطة يثبت أن الحزم في وجه إسرائيل، وليس النأي بالنفس عن الحرب أو الاكتفاء بالبيانات السياسية، وحده السبيل للضغط على واشنطن وتل أبيب لإيقاف الحرب الوحشية ضد قطاع غزّة والضفة الغربية المحتلة واللجوء إلى المفاوضات.
تعدّ مشاركة تركية نشطة في ملف الوساطة والمفاوضات بشأن إنهاء الحرب في غزّة تطوراً إيجابياً في حد ذاته
وإلى ذلك، حال واشنطن في ذلك حال موسكو، تحتاج أنقرة في التعامل مع الوضع المتوتر في البلد المجاور سورية، وفي ضبط التوترات هناك ما أمكن ذلك، فيما تتمسّك أنقرة بمواقفها المناهضة للحركة الكردية المسلحة (قوات سوريا الديمقراطية)، وبضرورة التوصل إلى حل سياسي يضع حدّاً للانشطار بين موالاة ومعارضة، ويلبّي مصالح جميع السوريين وتطلعاتهم، فيما تتجه أنظار واشنطن إلى النفوذ الإيراني والوجود الروسي والأنشطة الإرهابية لتنظيم داعش. ولعل إدارة بايدن تُضمر القلق من قرارٍ قد يتّخذه ترامب بسحب القوات الأميركية من سورية، والتطورات الأخيرة على “جبهة ريف حلب” تثير مزيداً من انشغال موسكو وواشنطن وأنقرة بمجمل الوضع السوري، فيما يسود جوٌّ من الترقب لانعكاس اتفاق وقف إطلاق النار اللبناني الإسرائيلي، على سلوك تل أبيب تجاه سورية عموماً والمليشيات الإيرانية فيها على الخصوص.
وفي الأثناء، تبقى الأنظار مشدودةً إلى موقف حكومة نتنياهو من النداءات الأخيرة لبايدن بإحياء مفاوضات غزّة، والحدّ من السعار الحربي، ما يجعل دعوة واشنطن أنقرة إلى المشاركة في المفاوضات وسيلة أميركية لتوجيه ضغوط اضطرارية على الحليف نتنياهو، لحمله على التحلّي بقليل من الواقعية، والإقرار بالخسائر الهائلة في الجانب الإسرائيلي والحدّ منها، وإن كانت هذه الخسائر لا تقارَن بالجريمة الكبرى بتدمير أربع مدن في القطاع: غزة وخانيونس ودير البلح ورفح. وفي مجمل الأحوال، تعدّ مشاركة تركية نشطة في ملف الوساطة والمفاوضات تطوّراً إيجابياً في حد ذاته، نظرا إلى الوزن الإقليمي الكبير الذي يتمتّع به هذا البلد، وكفاءته في التعامل مع التحديات السياسية في المنطقة.
المصدر: العربي الجديد